سهوب بغدادي
لطالما سمعنا المثل الشعبي «صاحب صنعتين كذاب» وقد تكون حقيقية في حال تشتت الشخص بين شيئين، وأقصد بذلك التشتت يأتي أثناء تعدد المهام وتعارضها في الوقت واستنزاف القوى والطاقة، إلا أن تعدد الصنايع لا يعني بالضرورة أن «البخت ضايع» باعتبار أن الإنسان القديم كان يزرع ويحصد ويصطاد ويبني منزله ويعمل الكثير من الأمور لاستقامة حياته ومن يعيل، ومع مرور الأيام وتوالي العصور ووصولنا إلى العصر الحديث، تبدلت الآية وإن تنوعت أشكال المهن والمهارات والمواهب، حيث يستلزم سوق العمل شهادة في مجال محدد، وشهادات احترافية تابعة ومتسقة مع المجال الأساس، من ثم خبرة ممتدة في سياق وحيد، وليس بالأمر الخاطئ بتاتًا، فمن كان يريد أن يذهب إلى طبيب -أمدكم الله بالعافية- فلن يختار سوى الطبيب المتخصص في أدق تفاصيل المجال، إنما أسلط الضوء على الوجه الآخر من الإطار المقلوب عمدًا أو سهوًا، فهناك أشخاص متعددو الشغف، هم الأشخاص الذين يبدعون في أكثر من مجال، شريطة أن يكون كل مجال غير متصل بالآخر، على سبيل المثال، شخص يعمل في الطب، ولكنه رسام تشكيلي خارج أوقات الدوام، ويشارك في معارض فنية ويحصد الجوائز، أو لا يحصدها فذلك لا يهم، بل الأهم أنه يبرع في المجالات المختارة، ولديه حب التعلم المستمر والتطور وكأنه طفل وجد نفسه في مدينة ألعاب، لا يعلم أين يبدأ ومن أين ينتهي، قد يكون لدى الدكتور أعلاه صنايع أخرى هو ذاته لا يعلمها أو يتصور وصوله لها، فالزمن وحده كفيل بإظهارها بالإضافة إلى حفاظه على جوهر تكوينه الأصيل والمتفرد، في هذا السياق، أذكر قصة حقيقة لشخص درس الهندسة بل ابتعث في الولايات المتحدة الأمريكية لهذا الغرض وعمل في مجاله سنينًا ومن ثم وصل إلى عتبات التقاعد، فتقاعد حقًا، إلا أنه لم يقعد في المنزل ويركن لينظر إلى ما فات، بل اعتبرها صفحة جديدة لحياته ليخرج أفضل مافيها ويعمل في المجال الذي لطالما شغل باله وتفكيره، ألا وهو الموسيقى، نعم، إنه المهندس سليمان السعدون مالك مركز نمير للفنون في الرياض، ولقد حكى لي قصته عن طريق الصدفة عند حضوري لمشاهدة كورال نجد بقيادة المايسترو عدنان رشيد، حيث يتواجد السعدون في المركز مع الطلاب على مدار الساعة ويستمتع بعمله الذي لم يتسنَ له العمل فيه بداية مشواره، حقًا، إن هذه القصة مثال حي على ملاحقة الشغف وعدم الركون إلى مرور السنين وطول الأمد، بشرط أن تكون جديرًا بحلمك ولو طال الزمن وعلت الأصوات المشككة فيه وفي قدراتك، علمًا بأنه ليس كل هواية جديرة بأن تحولها إلى شغف، فيجب أن يتوفر فيها شروط قد أذكرها في مقال لاحق -بإذن الله- ولكن الشرط الأساس هو أنت، فكن أنت.
«لو لم أكن فيزيائيًا من المحتمل أن أصبح موسيقيًا، غالباً ما أفكر بالموسيقى، أحلام اليقظة لدي موسيقى وأنظر إلى حياتي بدلالة الموسيقى، أجمل أوقاتي هي تلك التي أقضيها بالعزف على الكمان» «ألبرت أينشتاين».