أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في رحلة أدبية فنية بصحبة رئيس كتبة المجلة العربية سابقاً أخي الأستاذ (حمد القاضي)، ومحب الجميع (أبي هشام عبدالرحمن الشثري) إلى (الحوية) في الطائف بمنزل صاحب السمو الملكي الأمير (بدر بن عبدالعزيز) رحمه الله تعالى (وكان ذلك عام 1405هجرياً فيما أظن): لاحظت رزماً من أشعار شعراء سعوديين يريد أن ينتقي منها الفنان (محمد عبدالوهاب) شعراً غنائياً.. ولا أدري هل وفق لذلك قبل وفاته أم لا؟!.. بيد أنني رأيته يرمي بالورقة تلو الورقة، ويقول بلهجته المصرية (ايه ده)، كما سمعت تبرمه الذي هاتف به سموه حول غلبة النثر في الشعر؛ ولهذا كان كبار الـملحنين؛ بل كبار المغنين: ذوو الحس الموسيقي وإن لم يلحنوا: يغربلون الشعر، ويبدلون كلمة نثرية بكلمة شعرية (موسيقية).. ولا غرابة في ذلك؛ فقد أسلفت لكم مراراً: أن شعرنا العربي صار قياساً مجملاً للوزن الذي هو قالب اللحن منذ كان بصرياً؛ (أي تقطيع الوزن بالمسطرة)؛ وكان ذلك منذ استفحال العامية لغةً وغناءً ترتب عليهما تعذر استعادة ألحان العرب الضائعة.. واحتفظ الشعر بقدرٍ ضئيل من الموسيقى الداخلية والخارجية؛ وذلك هو الوتد المفروق لتحقيق عنصر النبر، وإيقاع النهاية؛ وهو الشرط العروضي للقافية.. هكذا لخص الأستاذ (محمد البحراوي) الألحان البشرية.
قال أبوعبدالرحمن: ويبقى مع ذلك للموسيقى الداخلية أنـها تـملأ الوتد المفروق، وأن الكلمة تملأ القافية بشرطها.. والشاعر العمودي اليوم مطلوب منه تعهد الموسيقى الداخلية بجهدٍ فوق جهد الإحساس بالوزن (وذلك هو الإطار العام للحن)، والإحساس بشرط القافية ذوقاً أو محاكاة لقياسٍ نموذجي من مأثور الشعر؛ وذلك هو التلحين والغناء على لحن جديد أخاذ بعد ضياع الألحان العربية، أو التلحين بلحنٍ بدائي ولو كان شعبياً؛ ذلك أن اللحن هو الذي يفرض الكلمة الموسيقية تلقائياً.. والشعر الحر أحوج إلى الموسيقى الداخلية بعد التحرر من الشروط الصارمة الرتيبة للموسيقى الخارجية.. وكل الأبعاد التقنية والفكرية للشعر الحر شكلاً ومضموناً: ستكون التعبير الجمالي الأعلى بالعنصر الغنائي.
قال أبو عبدالرحمن: طبقت دراسات على الموسيقى الداخلية في شعر (مهيار)، وشيخه (الشريف الرضي)، و(البحتري)، وكانت دراسة (نازك الملائكة) لغنائية (المهندس) بدايةً ناجحةً.. وكان الاهتمام بغنائية الشعر بدأً جاداً منذ عام 1943ميلادياً على يد أمثال (محمد مندور)، و(إبراهيم أنيس)، و(عبدالله الطيب المجذوب)، و(محمد النويهي)، و(شكري عياد)، و(كمال أبو ديب).. (مع دعاوى وتنطعات لدى الأخير).. وهناك دراسات عروضية حداثية جادة عن النغم والإيقاع والموسيقى في التأليفات العروضية؛ إذن الشاعر لابد أن يكون مغنياً وإن كان غناؤه ساذجاً، وإن كان صوته قبيحاً؛ لأن ماهية الغناء تفرض ماهية الكلمة المموسقة المعبرة صورةً وأداأً إضافة إلى التعبير المعجمي؛ وكل هذا يحقق إعادة تقويم العروض، وتحريره من تقنيناته غير المعللة بعللٍ معقولة؛ وذلك في العلل والزحافات.. وغنائية الشعر التي تحرره من تبجح النظم ذي الكلمات النثرية: مهمة كبرى للنقاد تقوم على الدراسة الواسعة لذلك التلخيص الجيد عند (البحرواي).. قال: (إذا كانت اللغة نظاماً مركباً من الصوت والصرف (أي وزن الصيغة ودلالتها)، والنحو، والدلالة (أي دلالة المفردة والسياق) يتواصل به البشر فيما بينهم (يعني في التعبير عن تصوراتهم وأحكامهم ومراداتهم): فإن الشاعر يعيد تنظيم كل هذه المستويات؛ لأن إعادة تنظيم الأصوات: يوجد به الإيقاع.. وإعادة تنظيم اللغة على المستويين الصرفي والنحوي: توجد صورة ومجازاته..) [أنظر مجلة فصول: م 4 يناير وفبراير ومارس عام 1984ميلادياً/ ص 314]، وفسر الإيقاع بهيئةٍ تنظيمه: بأنه ينظم أصوات اللغة على مسافات زمنية متساوية وفي أنماط خاصة، ولخص خصائص الصوت غنائياً بالعلو طولاً، وقصراً، ونبراً، وبدون نبر، وبالدرجة (وهي صفة النغمة)، وبنوع الصوت الآدمي.
قال أبوعبدالرحمن: الخصيصة الأخيرة ليست من مهمة الشاعر؛ بل هي مهمة الملحن في أدائه، وفي اختياره الصوت الآدمي الملائم.. ولقد سمعت (لا تكذبي) من مطربٍ كبير؛ فرأيته كأنه يحصب أذني بالجندل؛ لأن غناءه حرب وضرب؛ وليس غناء عتبٍ من قلبٍ متيم موجع؛ وما كان غناء المعارك يصلح قط لأشجان المتيمين.. والإيقاع ضرورة دلالية قبل أن يكون حلية جمالية، لأنه يغذي الدلالة بإشاراتٍ مجازية؛ إذن هذه العناصر الموجزة هي المتن الموجز لشرحٍ عبقري من النقاد، والتمثل التلقائـي الفطري من الشعراء، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
**
- وكتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عني وعنهم وعن جميع إخواني المسلمين -