د. خالد أرشيد المجلاد
تنطلق أغلب منهجيات اقتصاديات الوفرة وإعادة التدوير من منطلق تحقيق الاستدامة للموارد الناضبة وغير المتجددة من خلال الاستفادة من المتبقي من مخرجات فوائض الإنتاج من العمليات الصناعية وعالم الأعمال، والتي تم استهلاكها بصورة ما، ولم يبق لها فرص استخدام ذات عوائد ومردودات اقتصادية مقبولة سوى أن يتم إجراء بعض العمليات الصناعية أو التحويلية عليها، وذلك لإعادتها لأحد أشكالها القريبة من طبيعتها الأصلية أو إعادة استخدامها كمدخلات لإنتاج مواد وسلع جديدة ذات مردودات اقتصادية وقيم مضافة مقبولة.
وحيث إن أغلب شعوب العالم قد مرت أو ما زالت تمر بمراحل وموجات من التطوير والانكفاء، حيث إن الدور الواضح ومعامل الارتباط بين تلك الموجات - إيجابًا وسلبًا - هو بروز جيل من أولائك القادة التنويريين الأبطال ممن اعتنقوا ثقافة التغيير وحملوا مشعل التحول والذين خلقوا نوعًا من الاستقرار والتطور السياسي والاجتماعي والنمو الاقتصادي، بحيث استطاعوا بناء زخم غير مسبوق أدى إلى حدوث نقلة نوعية ارتبطت بلحاق دولهم بقطار الطفرات والقفزات الاقتصادية والتنموية المتسارعة وتحقيق التنمية المادية والفكرية والقيادية والإنسانية المستدامة من خلال سعيهم الممنهج بشكل تصاعدي لتغيير أبجديات ومحددات وأطر عمل منظومة القيادات والدفع بتمحورها حول الوطن والمواطن، وإيجاد نماذج تشغيلية مطورة من خلال التخارج الحكومي التدريجي ولو بشكل جزئي من منظومات التشغيل الحالية لتقديم الخدمات التي أثبتت فشلها أو عرف أنها عادة لا تتم بشكل كفئ وأصبحت منهكة للاقتصاديات الوطنية لتلك الدول. هذا إضافة لتطبيقها الصارم لنظم مكافحة الفساد والضرب على أيدي الفاسدين بعصا غليظة ربما كانت هي السبيل الوحيد لزجرهم وردعهم عن التجرؤ على مقدرات تلك الأوطان ومصادرة مستقبل واستحقاقات أجيالها القادمة. كل ذلك ترافق بتطبيق تلك الدول لنماذج متطورة وفعالة للرقابة والمحاسبة والجودة والحوكمة في وزاراتها ومنظماتها ومؤسساتها الحكومية والخاصة، إضافة لعملها على تنمية وتغيير توجهات وأهداف ومستهدفات القطاع غير الهادف للربح (الثالث) لدى أغلب تلك الدول.
إن إأحداث موجات ترددية ذات نواتج تصاعدية من التغييرات المخططة في قيادات الصف الأول والثاني كان لعمري المطلب الفاعل والشرط الأساسي والعلامة الفارقة والحتمية لنجاح تجارب تلك الدول (خصوصًا في مجموعة العشرين)، وأعتقد جازماً أنه كان ولا يزال مطلبًا أكثر من ملح لنجاح واستمرارية واستدامة تجارب تلك الدول، وكذلك لتجربتنا الوطنية التنموية السعودية الحديثة والمباركة على يد مهندسها العبقري وأميرنا المحبوب، سمو سيدي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله وإعانة- والمنبثقة من رؤية ملكنا الغالي، ملك العزم والحزم والعدل والإنسانية والعطاء، الملك سلمان - حفظه الله وأدام عزة.
عليه، فإنني أعتقد أنه يحق لي أن أدعي جازماً بأن تقدمنا كأحد أهم أعضاء أكبر عشرين اقتصاد في العالم، كوننا الدولة الأسرع نموًا وشبابًا بين دول مجموعة العشرين، بل وأعتقد زيادة على ذلك، بأننا ربما نكون بحاجة ماسة، ذات صيرورة تاريخية، تدعونا لأن نتنبه لأخطاء وتجارب من سبقونا من تلك الدول- ربما يجب أن نركز على أهم تجارب الدول التنموية المتعثرة أو متواضعة النجاح - أو تلك الدول التي لم تستطع تحقيق تلك القفزات والموجات التنموية الممنهجة والمستدامة رغم توفر كل مقومات النجاح، وذلك بسبب وقوع تلك الدول في فخ إعادة تدوير الكوادر المتهالكة (Recycling outdated cadres)، فقد عملت تلك الدول على إعادة تدوير مجموعات كبيرة من أشباح قيادات شبة منتهية الصلاحية متدنية الكفاءات الإدارية والقيادية وحتى الفنية، والتي لم تحقق منجزات أو تطور يُذكر طيلة العقود الثلاثة الماضية من عملها بهذه القطاعات، والتي لا تملك أيضاً أي مقوم من مقومات وأركان جدارات القيادة العالمية سوى قشور المراتب والمسميات الوظيفية التي أفشلت وصولها لأهم استحقاقاتها الوطنية.
السبب بسيط وواضح (وضعك للسرج على ظهور بعض المخلوقات لا يمكن أن يغير حقيقتها أو يحولها إلى أحصنة رابحة).
حيث ثبت بما لا يرقى للشك أن أغلب هذه الكوادر كانت عبارة عن كوادر متردية العزيمة والشغف والتأهيل بحيث تعرضت لكم هائل من الصدأ المعرفي والفني والشخصي غير القابل للإصلاح أو التحديث -برأيي، وأعتقد، أنه حان الوقت ولم يبق أمام متخذي القرار سوى التفكير العاجل بإرسال تلك الكوادر لجزيرة التقاعد والإجازات مدفوعة الأجر والشيكات الوداعية أو ما يسمى بالذهبية.
من الضروري رحيل تلك الكوادر المعتقة كشرط أساسي لإفساح المجال أمام قيادات الإبداع والنمو وشغف الإنجاز والريادة من القيادات المخضرمة في الصف الثاني والثالث والقيادات الشابة من الجنسين من الكفاءات المؤهلة بشكل عالٍ وعالمي عصري متوافق مع متطلبات المرحلة ممن يتوفر فيهم أولاً، وقبل كل شيء، شغف التحدي وسرعة وجودة الإنجاز وممن تمتعوا بجدارات قيادية وشخصية وفنيه متطورة مشهود لها من خلال مناهج ومراكز تطوير معرفية علمية وتراكم خبراتها العالمية. هذه الصفوف من القيادات المتطورة ما زالت تنتظر على رصيف الاحتياط الطويل، وهنا فإنني أعتقد أننا لو نجحنا في التقليل من سيطرة هذه الكوادر شبه المتخشبة على أدوات صنع القرار لكان ذلك سبيلاً لانفاذ الكفاءات المميزة وضخ دماء جديدة من القيادات الوسطى والدنيا ودفعها إلى الصفوف القيادية العليا (الأولى والثانية) لأدى ذلك لضمان ولوجنا لعصر الثورة الصناعية والمعرفية الرابعة بنجاح وتميز واقتدار. حيث يجب أن لا نكرر أخطاء تلك الدول بتعيين النسق الفكرية نفسها ممن اتسموا بضعف الجدارات الفنية والقيادية والإدارية والتحليلية والمالية وجدارات التمحور حول الوطن وخدمة المواطن وفقاً لمستويات عالمية تؤدي لنجاح واستدامة تلك القيادات والدول.
من الأفضل -برأيي- أن لا نعتمد على فنيين تخصصيين نجحوا في نطاقات وبيئات وحقب تاريخية معينة وتقديمها كقيادات لتلك الوزارات والمنظمات، بل إنني أعتقد كأحد أفراد الجيل المخضرم، أننا نتطلع لانتقاء خبراء في تطوير القيادات والتطوير الإداري وتميز المنظمات وإدارة منظومة رأس المال البشري لتتولى تحقيق كل استحقاقات ومستهدفات رؤيتنا المباركة 2030.
يجب أن لا نغفل عن اعتماد واعتناق منهجية واضحة المعالم لاختيار وتطوير والإبقاء على لتلك القيادات بحيث تكون هذه المنهجية مرتبطة بأسلوب علمي مبني على أسس وأطر عالمية مشهود لها بتطوير واختيار أفضل الكفاءات.
إن السبب وراء رؤيتي هذه وقراءتي في هذه السطور يكمن باعتقادي أننا وببساطة لا نستطيع تقديم حلول إبداعية لحل مشكلاتنا العصرية بعقليات ومساهمات وتفكير الكوادر نفسها التي ساهمت أو قد تسببت في وجود أغلب تحدياتنا الوطنية، وإننا يجب أن ننجح في بناء منظومة قيادة وطنية مطعمة بأجيال مخضرمة وشابة من النخب الفكرية المتطورة فكرًا وتأهيلاً، ممن تدرجوا وانحدروا من منظمات عالمية كانت ولا زالت منارًا للفكر المتطور والإبداع والجودة والتميز وحب الوطن. دمتم ودام وطن العطاء والخير بألف خير، ودام عزك يا وطن {أنتِ البلاد التي تعطي هويتها من لا يحبك يبقى دونما وطن}.
**
- مستشار تطوير القادة والمنظمات