حسن اليمني
حقيقة أن كل طبع يليق بزمانه، وأن لكل زمان طبائعه وخصائصه، وأن نخرج في الحديث من الطباع إلى المفاهيم والأفكار فإننا نقتحم القناعات المحفوظة في خزائن تلك العصور أو الأزمنة بما يعد خروجاً عن السائد أو تمرداً على تلك الطباع والقناعات، هنا تظهر إشكالية الاستجابة يسر وعسر للتغير بتدرج خفي غير محسوس في الغالب لكنه يتسع شيئاً فشيئاً لينبسط على الصورة العامة للمجتمع.
إن هذه هي حالة تطور المراحل لطبيعة أي مجتمع سواء للتقدم أو التقهقر للأحسن أو الأسوأ، يحكم ذلك آليات التغير والتحول ذاتها وبمعنى أنه وفي حالة الازدهار والثراء المعرفي حسن وجيد وفي حالة الحروب سواء داخلية أو خارجية لا شك أنه الأسوأ، والأمر الذي يستوجب الانتباه له والتوقف عنده وقراءته هو في جودة ونوعية هذا التغير في الباطن والعمق بدلاً من ظاهره المكشوف الذي هو في حقيقته أعراض للحال الباطن الخفي.
وفي حال مجتمعنا المسلم العربي السعودي وبما يختزنه من تنوع في الطباع وحتى المفاهيم والأفكار القديمة التي تجمعت وتوحّدت بالفعل السياسي وامتزجت حتى صارت كتلة واحدة بأكثر قدراً ممكناً وبطبيعة الحال في الظاهر العام مع بقاء رواسب قوالب الطباع المتأصلة في الباطن والخفاء، وإذا كان بحث هذا الأمر بعمقه ورسوخه يحتاج إلى معمل فكري متنوع بمستوى تنوع واختلاف تلك القوالب المترسبة في العمق لغرض تفكيكها وبعثرتها ثم إعادة جمعها بوحدة متحدة ومتماسكة، إلا أن الزمن والعصر بمعطياته وأدواته تعطي الفعل والأثر الأقوى في تشكيل وصياغة هذا التغيير والانتقال المرحلي نحو نتائجه الحتمية وأن ترك أو تم تجاهله فربما أدى إلى حالة من التفاوت والانقسام في القناعة والفهم.
لا بد أن نفهم أننا دولة ناشئة لم تبلغ من العمر مائة عام، ولا أقصد الوجود وإنما الهيئة الاعتبارية للوحدة الاجتماعية تحت المسمى الواحد شعب المملكة العربية السعودية، وإن كان نسق الانسياق والاتجاه كان في مساره الرتيب التقليدي الذي يعتمد توريث الطباع والمفاهيم هو المسار السائد إلى ما قبل فترة وجيزة فإن الحال خلال الفترة الأخيرة أخذ قفزة انعكاسية تطور وترق وحتى تستورد الجديد وتحله محل القديم بما قلب الحركة الآلية التقليدية المألوفة بانعكاس مرحلة الأجيال التقليدية واستبدلها بالمنطق والطبيعي لحال العصر بشكل عام في العالم كله وليجعل المجتمع داخل ضمن التحول العالمي بموجب معطيات العصر وتقاليده هو وليس الإرث المترسب المتوارث، وبتسهيل العبارة فإننا نرى أبناءنا باتوا يظهرون قواعد للطباع مختلفة عمَّا كان مألوفاً وسائداً مبنياً على فهم وأفكار مختلفة عن تلك القناعات المتوارثة عبر الأجيال القديمة إن جاز التعبير أو مفاهيم تلك القناعات الطبيعية المألوفة في مراحل تطورها الاعتيادي تلك التي كانت دوماً وباستمرار تتوقف أمام المستجد وتتعسر في هضمه حتى يصبح واقعاً لا مفر منه، على سبيل المثال دراسة البنات أو لاقط القنوات أو قيادة النساء للسيارات وإلى آخره من تلك المراحل التي قوبلت بالتمنع والارتداد إلى أن فرضت ضرورتها على القناعات واستسلمت لها في الأخير.
الفهم بالعلم هو نور ويعطي المرحلة اسم التنوير وهذا بدوره الطبيعي يتجاوز الخفاء والتعمية المتحصن خلف متاريس تلك القوالب المتوارثة ما يخلق حالة من تعارك منطقاً بمنطق يحكمه في النهاية مسار ومنهج الاتجاه المرسوم لحركة المجتمع وترقيته للتجانس مع العصر ومعطياته وآلياته وأدواته درءاً للانعزال والتخلف، والحديث هنا ليس في التبديع المادي وإنما في المفاهيم والقناعات الخفية لكن المترسبة ومماحكتها وإثارتها وإعادة صياغتها ولا أقول تطويرها وقد تكون متطورة من الأصل وإنما تهيئتها لتتناسب وآليات العصر ومعطياته بما قد يعتبر مستجداً أو مستحدثاً تصعب على بعض المفاهيم القديمة أو بوصف أصح المتوارثة في فهمه أو زحزحة بعض قناعاته المترسبة في قوالب حظيت بالتقدير والتضخيم في آنيتها المرحلية وعجزت بالتالي أن تهضم المستجد أو المستحدث لتستنكره وتصفه بالخروج عن السائد والمألوف دون أن تدرك أن كل شيء يحكم بعطائه ونتائجه أو ربما بالشعور بالضعف وعدم القدرة على مجاراة المستجد المستحدث فيتم إخفاء هذا الضعف تحت رداء الاستنكار.
إن من الصواب إدراك أن الأمر ليس على عواهنه في كل الأحوال وليس كل مستجد مستحدث رقياً أو تطوراً وليس كل مألوف سائداً معطلاً وعقيماً وخاصة في الأخلاق والسلوك بعيداً عن القناعات والمفاهيم وتغيراتها، ذلك أن الأخلاق التي تحكم السلوك هي من القيم والمبادئ المتأصلة في تشكيلة المجتمع ونوعيته وهذه أي القيم والمبادئ المحكومة بالمقدس والأصيل من الخصائل طبيعة في الجين الوجداني للمجتمع التعدي عليها أو تجاوزها هو اعتداء على المجتمع ولا أحد يختلف حول هذا الأمر وإنما الأهم الذي أتحدث عنه هو طبيعة التغير والتجديد بما يتبعه من تطور وتوسيع في الفهم والفكر لترقية الطبائع والمألوف فهذه لا بد من الإقرار أنها قابلة للترقية والتطوير والتمسك بها أو الوصول بها للقداسة العاطفية تعطيل وعرقلة.
إن إدارة وهندسة حركة التحول والتغير لطبائع المجتمعات غاية في الدقة وبالغة في الصعوبة وإن من أدوات هذه الإدارة والهندسة لهذه الحركة في راهن عصرنا هما الفن والثقافة المدخلتين ضمن الباب الإعلامي، قديماً كان الشعر والموعظة والأدب والبلاغة هي الأدوات المتوفرة إلا أن هذه أصبحت اليوم شبه غائبة لتحول الشغف والفضول إلى الأسهل وغير مباشر بحكم ما وفره العصر من آليات وأدوات دخلت فيها حتى مواقع التواصل الإلكتروني واستبدلت الإلكتروني بالاجتماعي لتدخل في مكنته العلاقات الاجتماعية حتى صارت كالمرآة لأخلاقنا وسلوكنا بتحرر متاح يصل ربما حد الانفلات والخروج الآمن عن كل قواعد الضبط العقلي والوجداني وبالتالي صار من الصعب ضبط إدارة وهندسة الحركة التحولية للمجتمع دون كفاءة عالية موازية تسعى لتهذيب هذا التحول وترجيح الإيجابي فيه على السلبي, أي أنه الذي بدوره يستطيع إدخال خصائص مفيدة لعملية التحول كتصعيد أهمية القراءة والتفكير والبحث في العمق إلا أنه وللأسف لا يزال الفن والثقافة بشكل عام تميل إلى التسطيح والسذاجة الغبية للكسب والاستثمار الربحي المادي على حساب القيم والمبادئ والأصيل.
إنه ولأهمية الأمر أي تجويد آليات وأدوات حركة التحول والتغير في المجتمع أن نركز على أمرين حاضرين فعلاً, الأول إيجابي ويتمثَّل في تحديث المناهج التعليمية وإدخال الفلسفة والمنطق وإن كان تحت مسميات أخرى وكذلك الفن والعلوم الرياضية كعلوم الفضاء والذكاء الاصطناعي وكذلك إدارة التجمعات لينقل التعليم من التلقين إلى التقييم الفكري والذهني وأزعم أن هذا سيكون له نتائج رائعة، وأما الثاني فهو في نظري سلبي ويتمثَّل في الإعلام بشكل عام بما يدخل فيه الفن والثقافة والصحف والقنوات من حيث انتهاجها للتأثير السطحي الذي يسحب إلى القاع بدلاً من الارتقاء حتى وإني أشبهه وهو داخل عملية التحول والتغير للمجتمع كالممسوس في حفل زار إلى درجة استطاع فيها إخفاء الإشارات المضيئة في بعضه وحوّل الشغف الجمعي من العمق للسطح بما جعل المفيد إذا وجد وهو موجود بمثابة الدواء المر الذي لا تستسيغه ذائقة المتلقي فتلفظه وخصوصاً أن الغالب المتلقي يميل للهو أكثر من ميله للقراءة واتجاه الإعلام يسحبه بقوة نحو هذا ويغذيه ويشبعه حد الإسراف.