ما أشدها تلك اللحظات التي تسيطر فيها على الإنسان مشاعر القلق واليأس والخوف، وما أكثرها تلك صنوف النوائب والمحن التي تبعث هذه المشاعر في نفسه، وما أغورها وأعتاها وأضراها تلك الهواجس التي تجتمع عليه في تلك اللحظات تسائله عن وجوده وحياته، عن معاناته وآلامه، عن بدايته ونهايته.
لم تهتم أي فلسفة من الفلسفات بدراسة مشاعر القلق واليأس والألم والمعاناة والإغتراب كما فعلت الفلسفة الوجودية، ولم تنل المشاعر والعواطف والأحوال الشعورية الذاتية حظها من الاهتمام والدراسة على مدى تاريخ الفكر الفلسفي إلا مع ظهور الفكر الوجودي. عندما ظهرت الوجودية وجهت الأنظار نحو الحياة العاطفية للإنسان، حيث إن شعور الفرد بوجوده كشخص يبدأ بمعايشه الواقع وجدانيا أكثر منه عقليا. والشعور بالوجود لا يكون قويا عن طريق الفكر المجرد، لأن الفكر المجرد انتزاع من تيار الوجود الحي، وانعزال في مملكة أخرى تذهب منها الحياة المتوترة الحادة لا يسودها فعل وحركة.
إن الشعور بالوجود في حال الألم أقوى في حال المعرفة بالألم، إذا الأول اتصال مباشر بين الذات والوجود بينما في حال المعرفة اتصال غير مباشر. لقد أدركت الوجودية أن للوجود الإنساني خاصيته التي لا يمكن الوصول إليها بالعقل، ويمكن الاقتراب من وجود الإنسان بالمشاعر والعواطف والوجدان، ولا بالعقل أبدا. رأت الوجودية بأن الإنسان يشعر وهو في الأسى أنه حي وجود أكثر بكثير مما يشعر بذك وهو في السرور، والعنصر الأساسي في الوجود الإنساني هو القلق.
القلق بكافة مشتقاته يدل في لسان العرب على الانزعاج والحركة والاضطراب، وفي اصطلاح علماء النفس، القلق حالة من الخوف الشديد الذي يمتلك الإنسان، ويسبب له كثيرا من الصراع والكدر والضيق، وهو علامة ظاهرة لصراع مستمر في أعماق اللاشعور. القلق هو الشعور الأساسي للوجود في العالم.
وكان كير كيجور هو أول من حلل شعور القلق تحليلا وجوديا، وكان موضوع القلق واحدا من أهم الموضوعات الرئيسية في الفكر الكيركيجوري، تعرض كير كيجور شعور القلق في العديد من كتبه ومقالاته، وأفرد أحد مؤلفاته للحديث عن القلق في كتابه الذي عرف في الإنجليزية (The Concept of Dread) مفهوم القلق.
لقد وضع كيركيجور تصورا تتكون الذات الإنسانية وربط القلق بهذه التكوين كل الارتباط، كذلك ربطها بسيكولوجيا الحرية التي مصدرها حرية الإنسان، وهذه النظرية تركز في ظاهرة القلق بشتى أبعادها. رأى كيركيجور أن الوجود الإنساني الأصيل هو وجود الإنسان كروح، فالروح هي من أهم خاصيته مميزة للإنسان وأكبر شيء دال على إنسانتيه.
القلق هو نقطة التقاطع بين العالمين، العالم الداخلي للإنسان، وهو عالم الروح، وعالم الخارجي الطبيعي، والإنسان يجمع بين الحس والعقل، بين الجسد والنفس، وهو يعيش في ظل القلق، ولا يمكن لأي إنسان أن ينجو من القلق، بل إن غياب القلق هو دليل على القلق، لأن القلق هو مصدر انفعالاته كلها، وأساس مشاعره جميعا.
**
merajjnu@gmail.com