عبدالمحسن بن علي المطلق
بالحي جاري وبالصلاة أيضاً، أمس وبعيد السلام وما تيسّر له من الأذكار التفت عليّ مسلّماً فدعا لي، لم أرهف من دعواته سوى تكراره بـ(رحم الله والديك)، وحين سمع من أعماقي تأميني على ذلكم، كأنه وجد مفتاحاً للحديث فقال أذكر مما نبا لي عن ابن القيم رحمه الله ذكر (من فوائد العوام دعائهم للمسلمين)، ثم زاد بـ(وأنا عامي)، ظناً أني لا أعلم عن عطائه العلمي، والذي بالفعل لا يخفاني، بل ألفيت له أكثر من مؤلّف، وأزيد عنه أنه حتى لو علم.. فلا أظنّه يعدل عن مقالته تلك، فقد بصرت به بُلْغ من التواضع ما لا أعجب، وكذا هي حال الشجر المثمر(1)، الذي كلما يزيد طرحها تزداد انحناءً، على النحو الذي لآفٍ في كنن محفوظنا وكائن في فنن تذوّقنا ..ما اشتهر من بيتٍ في هذا السحاء، عنه
ملأ السنابل تنحني بتواضع
والفارغات فروعهن شوامخ
ولكأن لسان فعلها -بالمناسبة- قائلاً:
لا تتكلّفوا للصعود، بل هاكم هنيئاً مريئاً.
وكم يكبر بعينيك من تعطِ يده ومنشقّاً عن ثغره ابتسامة تكاد تسبق، على وجه ما يروى عن زين العابدين رحمه الله أنه كان يكرم السائل ويقول له: (أهلاً بمن يحمل زادنا إلى الآخرة)، وكان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة، تهلل بـ(مرحباً(2) بمن جاء يحمل حسناتي إلى الآخرة بغير أجر).
وماد أحد العارفين في تبيان هذا: (لو عرفتَ ما يحمله لك السائل من الخير لحملتَه في فؤادك لا على رأسك).
وكان سفيان الثوري (سيّد التابعين) ينشرح إذا رأى سائلاً على بابه ويقول: «مرحباً بمن جاء يغسل ذنوبي»..
وجاري - هذا - مما عرفت عنه من الوداعة.. ذكرني قوله من العوام حين سأل الوليد بن عبدالملك رجلاً هرماً ألا تؤثر الموت - يعني بحالته تلك وعمره و..-؟
لكن الرجل وقد جمع مع شيبته حكمةً أجاب (أبداً يا أمير المؤمنين، فإني إن قمت حمدت الله وإن قعدت استغفرته، وأحب أن تطول بي هذه الخلتان)، وهتان لا يجب أن ينفكّ عنهما واعٍ، فالحسن البصري حين سمع (حمالًا) يكثر من الحمد والاستغفار فقال له: ياهذا ألا تحفظ من الأذكار إلا هذين؟، أجابه (إني أحفظ نصف القرآن، لكني نظرت في نفسي فوجدتها بين حالين:
نعمة تستوجب حمدًا (3)، وذنباً يستوجب استغفارًا..)
والفكرة ها هنا تقول إن لا تنقص من قدر شيء، ولا تقلل من مثاقيل وزن، فالميزان عند الله، ألم يبلغك قول حبيبك صلى الله عليه وسلّم (سبق درهمٌ مائةَ ألفٍ)(4)
تمعّن ليس مئة بل ولا ألف حتى بل (مئة ألف)، وصدق نبينا المربي والموجّه، فذاك/ محمداً، صلى عليه منزّل القرآن
أيضاً حسبنا حديث (لا تحقرنّ من المعروف ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) نعم وأنعم بمن لا يفته مثل هذه البدهيات/
بنيّ إنًّ (البرّ) أمر هيّن
وجه طليق، ولسان ليّن
فياناس إن كل الناس تؤثر ما جاء بآية {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} (263 سورة البقرة).
ويجدر الإشارة إلى أن هذه حال في حالة المفاضلة، أما عند التخيير للمحتاج فالصدقة أولى عنده بمراحل، لكن ولأن ديننا يسعى سموّاً بتربيتنا، قال بهذه وإن كان بمناسبة (السمو) أن الأولى من إفراد إحدى هاتان.. هو الجمع بينهما.
فما يضير المتصدّق أن يُسبق ما يُتبع صنيعة بابتسامة.. وعريضةً أيضاً.
هذا..
و(الموضوع) ينبش بعضه عن بعض، فإن من الجيران وليس إقلالاً بغيرهم.. من يأكلك أكلاً لمّا، فمما يُناسب/
أذكر زرت خالي منصور فلم أجده .. فقلت له يا خالي قدمت للسلام فلم أجدك وسلّمت على جاركم الدكتور الحسون، فأجاب( بما أنك سلّمت عليه، فكأنك وجدتني)..
- - - - - - - --
1) هل نعجب أن يضرب القرآن مثلاً بالكلمة الطيبة.. بها {...ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا...} (24 - 25) سورة إبراهيم
2) جلاء .. لمقالة: مرحباً، وأهلاً وسهلاً/
فمرحباً أي على الرحب (الواسع) قد قدمتم
وأهلاً أي على أهلك نزلت.. وسهلاً، من السهل.. - خلاف الصعب-
3) هل لاحظتم كثرة حمده وهو «حمال»..
فكيف به لو كان من السادة الأغنياء؟
فعلاً الغنى بالقلب لا بما في الجيب
4) وفي سياق ذات الحديث شرحا (..كان لرجلٍ درهمانِ فتصدَّقَ أجودُهما وانطلق رجلٌ إلى عرضِ مالِه فأخذ منها مائةَ ألفٍ فتصدقَ بها) رواه النسائي، وعند أحمد رحمهما الله.