د.عبدالله بن موسى الطاير
الدولة الدينية أو الأيديولوجية السياسية تتعارض مع مفهوم الدولة الحديثة ومعاهدات ومواثيق احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. إنها لا تعترف بالحدود؛ تساوى في ذلك الخلافة الإسلامية والإمبراطوريات المسيحية. المستجدّ في عالمنا المعاصر بروز الليبرالية الديموقراطية كدين وأجندة تتجاوز حدود الدولة الوطنية، وتنهتك صكوك ومواثيق الأمم المتحدة والأعراف الدولية.
المعني بالدولة الدينية في سياق هذه المقالة يشمل الإسلام والمسيحية واليهودية والليبرو-ديموقراطية، والشيوعية وأية أيديولوجية تتأسس على وحي منها سلطة أو تستقوي بها. تاريخياً وُجدت وتوجد الدول الدينية بأشكال متفاوتة عبر ثقافات وفترات زمنية مختلفة. أدرجت الحضارات القديمة مثل مصر وبلاد ما بين النهرين والإمبراطورية الرومانية المعتقدات الدينية في هياكل حكمها، وظهرت الثيوقراطيات؛ حيث كان القادة الدينيون يتمتعون بسلطة سياسية كبيرة، في مجتمعات مثل مصر القديمة والتبت ما قبل الحديثة. علاوة على ذلك، شهدت فترة العصور الوسطى صعود الدول القائمة على أساس ديني، بما في ذلك الولايات البابوية في أوروبا، والخلافات الإسلامية.
غالبًا ما تقوم الدول الدينية بدمج العقائد الدينية في السلطة السياسية، مما يؤدي إلى مجموعة فريدة من مبادئ الحكم؛ ولتقريب المفهوم للتماهي مع المعاصرة، فإن الاتحاد السوفيتي أنشأ وموّل قيام دول على أساس أيديولوجي، بعضها لا يزال قائماً حتى يومنا هذا، كما أن الدول الغربية تضع الديموقراطية وحقوق الإنسان وحريات التعبير وحقوق المثليين وغيرهم من الأقليات ضمن موجهات سياستها الخارجية، والدول التي تحقق قدرًا مقبولاً من هذه الموجهات ترتقي إلى مستوى الحلافة لتشابه منظومة القيم، والدول التي تخفق تبقى في دائرة الصداقة، وقد تتقهقر إلى مستوى العداء.
تتشكل قوانين وسياسات هذه الدول من بناء على التعاليم الدينية التي تعزز الشعور بالاتجاه الأخلاقي والقيمي. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي هذا الاندماج أيضًا إلى تحديات، مثل التمييز ضد الأقليات الدينية الأخرى.
تمثل الموازنة بين المبادئ الدينية والحاجة إلى احترام الحريات الفردية وحقوق الإنسان المختلفة معها، وسيادة الدول تحديات رئيسة. قد يكون تحقيق توازن بين الحفاظ على القيم الدينية والأيديلوجية وضمان استقلالية المواطنين أمرًا صعبًا. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي التنوع الديني داخل هذه الدول إلى توترات بين أتباع الديانات المختلفة ويخلق بيئة من المرجح أن ينشأ فيها التعصب الديني والصراع، وهو ما يجري حالياً بين مكونات المجتمعات الليبرو-ديموقراطية، ففي الوقت الذي تسمح فيه بالهجرة والتجنيس فإنها لا تضمن حقوق المُختلِف في الاحتفاظ بهويته، بينما كان يمكن المحافظة على السلم الاجتماعي لو توقفت تلك الدول عند علمانية الدولة، وضمن الحريات دون إكراهات أيديولوجية.
يمكن للدول الدينية أو المؤدلجة أن يكون لها تأثير عميق على القيم المجتمعية، والثقافة، والهوية. في بعض الحالات، وأن تعزز إحساسًا قويًا بالوحدة والهدف المشترك بين المواطنين الذين ينتمون إلى الدين السائد. ومع ذلك، قد تأتي هذه الوحدة على حساب استبعاد أولئك الذين لا يشاركون المعتقدات نفسها، مما قد يؤدي إلى الانقسامات والاضطرابات الاجتماعية. علاوة على ذلك، يمكن أن تشكل سطوة الدين والأيديولوجيا على التعليم والإعلام التصورات العامة، وتحد من الانفتاح على التنوع.
ربما يسهل ضرب مثل بدولة الفاتيكان باعتبارها المركز الروحي للكنيسة الكاثوليكية. يرتبط حكمها ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة الكاثوليكية، ويمتلك البابا سلطة دينية واسعة، وسياسية محدودة مجردة من السلطة العسكرية والقوة الاقتصادية، لتنزوي ككنيسة كبيرة يحج إليها الكاثوليك، ويلتزمون بفتاوى البابا وتفسيراته المذهبية. غير أن المثال الأكثر نصاعة في عالم اليوم يتمثل في دولتين أولهما إيران التي تستمد القرار من السلطة الدينية، وبذلك فإن صراعاتها مستمرة، تستعر تارة وتهدأ أخرى، وثانيهما إسرائيل حيث الدولة اليهودية التي لا تسمح بالانتماء لغير اليهود. الفاتيكان وإيران وإسرائيل أمثلة للتطبيق الحرفي للدولة الدينية بيد أنه لا يمكن تجاهل دول مثل فرنسا وأمريكا وكندا وغيرها التي أصبحت تدين بالليبرالية- الديموقراطية وتتصرف على مع الآخرين بوحي منها.
يبدو أن خلط الدين والأيدلوجيا بالسياسة يعيد العالم إلى ما قبل صلح وستفاليا، وأن عقد العزم على مقاربة جديدة تحافظ على سيادة الدولة الحديثة من الانتهاك ضرورة لا بد منها ليستقر هذا العالم. القطبية سواء أكانت أحادية أو متعددة ليست هي الحل، وإنما ينبغي العودة مرة أخرى إلى الأمم المتحدة لتقرير مصير هذا العالم قبل أن تقرره أسلحة الدمار الشامل بإملاءات من المصالح القائمة على الدين والسياسات المؤدلجة.