د. جاسر الحربش
في بداية حياتي المهنية بعد الحصول على شهادتي البكالوريوس ومرحلة الامتياز من ألمانيا عدت إلى الوطن وعملت كطبيب عام (غير متخصص) في مستشفى الملك عبدالعزيز (طلال سابقاً). كان الراتب الشهري يماثل راتب أي موظف في الخدمة المدنية حاصل على شهادة البكالوريوس، ولا فرق بين الطبيب والموظف في أي من جهات الخدمة المدنية. ذهبت مع زميلي المرحوم الدكتور محمد المعجل لمقابلة مسؤول كبير في وزارة الصحة نطالب بتحسين الوضع مقابل المناوبات الليلية والتعرض للأخطار المهنية. صدنا ذلك المسؤول قائلاً ما معناه أنه يجدها من قلة الحياء مطالبتنا بزيادة الراتب لمهنة الطب الإنسانية. كان ذلك السبب الأول لاتخاذي القرار بعد سنوات من العمل في القطاع العام أن أنتقل إلى العمل في عيادتي الخاصة.
في العنوان لم أستعمل المصطلح الشائع خدعوه فقالوا، فليس في الموضوع خدعة مبيتة بقدر ما فيها من التوريط بحسن نية، والكلام هنا عن التحفيز الاجتماعي الضارب في القدم لدراسة المهنة الطبية كأشرف مهنة إنسانية.
أما وقد تقاعدت الآن صرت في حل لكي أفضفض وأبوح بما كتمته من مسيرة أتراح تخللتها أحياناً بعض الأفراح عن العمل كطبيب، ودعت الطب بعد أكثر من نصف قرن عمل مضن متواصل، منهك جسدياً في النهار ومناوبات الليل، ونفسياً من الهموم والقلق على حياة المرضى التي تلازم الطبيب في المنزل حتى في المنام، ودعت الطب متنفساً الصعداء من كأدائه كمهنة منهكة ومزمنة تعرض صاحبها لأخطار العدوى جسدياً ونفسياً بمعايشة القلق كل يوم، وفوق ذلك غير مجدية مادياً بما يناسب مسؤولياتها العملية والاجتماعية، إلا أن يعرف الطبيب كيف يحتال لنفسه وعائلته لما يتواءم معيشياً مع المفترض اجتماعياً لصاحب المهنة التي ألبسوها قفطان وجبة المهنة الإنسانية الأشرف.
منذ القدم خيم السكوت بتوافق طبقي نادر لكل المجتمعات عن متلازمة العوز المادي المرتبطة بالتفرغ الكامل لهذه المهنة، وعن التعرض لتقلبات أمزجة المرضى وأهاليهم اليومية وأحياناً التعديات اللفظية والجسدية، وفوق ذلك عن نقص الوقت المستحق للزوجة والأطفال والعائلة الكبيرة الممتدة.
ودعته ولم يكن بودي أن أودع الطب كعلم ممتع وكتطبيق منهجي يجمع بين الانضباط العملي ومتطلبات العرف الاجتماعي عن أخلاقيات الطبيب المطلوبة والمتوقعة. الإغراء الأول أو التوريطة الأولى المعنوية هي المواصفات الإيحائية عن الطبيب الحكيم الجليل القدر المقدر أينما حلَّ وارتحل المتنازل طوعاً عن الراحة ورغد العيش، القانع بما ييسره له الخالق من الرزق المتواضع. إنها حقيقة تاريخية لوصف وضع الطبيب المعيشي المتواضع مقارنة بمن هم دونه في العلم وفي مشقة العمل ولكنهم أكبر حظوظاً من الرفاهية والراحة سواء في أعمالهم اليومية أو في آخر الشهر عند التوقيع على الراتب الموعود.
كل أو أغلب المهن الخدمية المهنية يستطيع ممارسها مسح الذاكرة اليومية من مكابداتها في نهاية يوم عمله ما عدا الطبيب. من المعلوم بالاستنتاج المنطقي أن الطبيب المخلص لمهنته يستمر طول حياته المهنية ملاحقاً باحتمالات اشتداد وإزمان العلل التي يحاول كبحها وبوفيات بعض المرضى، فهو يواجه الموت كل يوم ويحمل معه همومه ومخاوفه إلى المنزل وحتى في المنام.
خاتمة الكلام: ذلك ما جعلني بعد التقاعد أقول أغروه (بمعسول الكلام) عند ما قالوا إن الطب خدمة إنسانية وكفى وصمتوا عن ما يشبه جزاء سنمار بعد التخرّج وزجه في معركة البقاء والموت.
وملاحظة أخيرة: استباقاً لضمور الإقبال على دراسة المهن الصحية عموماً وتسرّب الأطباء والممرضين والفنيين إلى مهن أخرى بادرت السلطات المسؤولة في ألمانيا وكندا وأمريكا وأستراليا برفع مرتبات تلك المهن إلى مبالغ مغرية ومقنعة للدراسة والاستمرار في ازدهار المهن الطبية والصحية على وجه العموم.