في كتاب «الأبطال» قدّم لنا توماس كارليل ست صور للبطل وهي البطل بصورة الإله، وصورة نبي، وصورة القسيس، وصورة الشاعر، وصورة الكاتب وأخيراً القائد، في هذا النص شعرت أن هناك صورة سابعة للبطل وهي صورة «العاشق».
يأخذنا النص إلى حي «غبيرة» العتيق لنعيش معه قصة سالم وغادة التي يعرفها «كل غبيرة» حسب المؤلف، مثيراً للدهشة لنا عن سبب معرفة أهل «غبيرة» لهذه القصة، فتجد نفسك تنساب مع النص لمعرفة السبب، وقبل أن تعرف السبب تتفاجأ بمفاجأة أخرى، وهي أن غادة لها أخ اسمه رويجح!.
فرويجح عادة أخته اسمها حصة، نورة، سارة، منيرة، بينما غادة يفترض أن يكون أخوها بندر، فيصل، فهد، وهي ليست مشكلة كبيرة في النص، ولكنه شيء حاك في صدري وأحببت أن يطّلع عليها الناس!
ميزة القصة أن المؤلف لخصها لنا في البداية، ثم عاد ليقصها بالتفصيل على طريقة الفلاش باك. فقعيان أبو الذهب الذي يعمل رسولاً للغرام بين غادة وسالم، لإيصال الرسائل بين الطرفين يذكرنا بما قاله ابن حزم الأندلسي في باب السفير» من «طوق الحمامة» وهو من يُستخدم لهذا الدور، وصفاته حسب ابن حزم: «إما خاملاً لا يُؤْبَهُ له، ولا يُهتدى للتحفظ منه، لصباه أو لهيئة رثة أو بذاءة في طلعته، وإما جليلاً لا تلحقه الظنون لنسك يظهره، أو لسن عالية قد بلغها»، وفي ظني أن قعيان ينتمي للفئة الأولى فتصرفاته في النصّ لا توحي أنه جليلا ولا ناسكا.
في هذه العلاقة المنتشر خبرها بين سكان الحي «كان الجميع يتحدثون همساً عن تلك العلاقة»، و»يسترجعون مئات القصص والحوادث والأحاديث التي تعجبهم عن الحب ويسقطونها على سالم وغادة ويتخيلون سعادتهما فيما يفعلانه ويسعدون هم أيضاً بهذه التخيلات». هذه الأسطر - في نظري - مفتاح الشخصية للنصّ، فالمؤلف كأنه يتحدث عن حالة تتكرر عند الإنسان إذا أراد فعل شيء لا يستطيع فعله، فيترك لخياله العنان لفعل ما يشاء أو ربما ليفعل غيره ما يشاء، فالبعض لا يستطيع تخيل أن يكون بطلاً لقصة أو قائداً لفعل ما، فيصنع من خياله أسطورة تفعل كل ما لا يستطيع فعله، فآلهة للإغريق كانت من خيال من يعرف أنه لا يمكن أن يكون آلهة. سالم وغادة، قصة عاشها أهل غبيرة فزادوا عليها ما زادوا كلاً حسب خياله.
يبين المؤلف لحظة اكتشاف رويجح علاقة أخته مع سالم عن طريق ارتباك الصبي عندما رآه في بيته مما زاد الشكوك عنده
فينفجر رويجح غضباً ويذهب إلى سالم صارخاً فيه: اخرج يا واطي إن كنت رجلاً ...
هنا تناقض غريب ... أخرج يا «واطي».. إن كنت «رجلا»!
وهل الواطي يكون رجلا؟! ... حالة الغضب أربكت لسان رويجح، وكأن الفكرة هنا استفزاز للطرف الآخر الذي هو «سالم»، فكلمة «واطي» هنا أتت كلفظة اعتراضية، فالجملة يكفي أن يُقال فيها «أخرج إن كنت رجلاً»، ولكن عبارة «واطي» خرجت من أعماق رويجح، وكأن كل لحظة لقاء أو رسالة غرام مرت بين يدي قعيان وهو يجري ليوصلها خنجر في ظهر رويجح يذكره بجرح في داخله، وخديعة سالم وأخته له.
نزل سالم مهيأ لمصيره وما سوف يحدث له، رويجح مع كل هذا المصيبة كان ذكياً وهو يختار اللفظ الملائم حتى في سورة غضبه: «تغازل أختي يا كلب»، فكأنه هنا يبرئ أخته من العلاقة أمام الناس، فسالم يغازل أختي، أما أختي فلا لوم عليها ولا علاقة لها بما حدث وبطريقة غير مباشرة الرسالة التي يريد أن يوصلها لأهل حي غبيرة، أن «أختي شريفة المشكلة في سالم».
الموقف الذي يستدعي التأمل هو موقف أهل الحي الذين كانوا يترقبون قعيان سفير الغرام في حلّه وترحاله، ويصنعون من خيالهم الخاص قصصاً أخرى، إلا أنهم ما إن رأوا رويجح يضرب سالم حاولوا تهدئته: «خلاص يا رويجح عطيته حقه، لا تضيع وقتك على ذا التافه».
هم يقدرون شعور رويجح، وردة فعله الطبيعية، إلا أنهم في الوقت نفسه مستمتعين بالقصة، وبما يزيدون عليها بإضافاتهم جمالاً آخر، ولكن ما إن انكشف الأمر أحسوا بفداحة المشكلة التي شاركوا فيها بالصمت، تركوا سالم الذي كان «عاشقا» يطل عليهم بخيالاتهم، تركوه فاسقاً تافهاً يلعب بأعراض بنات الحارة، تركوا بطلهم يجابه الموقف وحيداً دون أن يتدخلون إلا بقليل من الكلمات زادته عاراً على عار. تركوه بعد أن صفقوا له ولقصته ولعشيقته كثيراً.
مثل هذا هم البشر، يسعدون بما يرون، يسعدون بالبطل أياً كانت صورته، يهتفون له، يتخيلون شخصيته، يحكون بطولاته وغرامياته، يزيدون عليها حتى يصبح أسطورة، وما أن يسقط حتى يتركوه وحيداً ويهربوا جميعاً، متجهين إلى شخص آخر ليصنعوا منه أسطورة أخرى يسلون أنفسهم به، ويزيدون عليه قصصاً تضفي هالة أسطورية زائفة تنتهي بمجرد أن يسقط.
قبل أن ترحل غادة مع أهلها من الحارة، انطلق قعيان برسالة جديدة حركت مفاصل الحارة من جديد، المشهد يتحرك، الشخوص تنتفض، الشبابيك تفتح، الأصوات تعلو فقعيان يظهر من جديد، هذه الحركة، وهذا الركض، أيقظ خيالاتهم التي ماتت، ودقت معها قلوب مراهقات الحارة التي ربما كن يردن أن يكن مثل غادة ويرزقهن بشاب يداعب أحلامهن وعواطفهن مثل سالم، فبعض النساء حتى وهي تعلم أنها تُخدع لكنها سعيدة بهذه الخدعة.
الملاحظ هو ردة فعل الناس الذين ما إن رأوا قعيان يجري حتى عادوا إلى سيرتهم الأولى ...انطلق قعيان كالريح، وأرسل رسالة غادة الأخيرة، وكما كان قعيان سبباً في إطلاق العنان لخيال أهل حي غبيرة، فهو هنا سبباً لإطلاق خيالاتنا لتتساءل عن ماذا كانت رسالة غادة الأخيرة؟!
أخيرا ..
البطل في صورة عاشق ... يعشقها البعض كحكاية ...
ولكن ... بعيداً عن جدران بيته ...
فحينها ... كلنا رويجح.
ما بعد أخيراً ...
عزيزي خالد ... شكراً على هذا النص الجميل!