عبدالعزيز بن علي النصافي
في مقدمة سيرته البديعة (غربة الراعي) يقول إحسان عباس: «حين فاتحني عدد غير قليل من الأصدقاء في أن أكتب سيرتي الذاتية توجهت إلى أخي بكر عباس أسأله رأيه في الأمر, فكان جوابه المباشر أن قال: لا أنصحك بذلك؛ لأن حياتك تخلو أو تكاد من أحداث بارزة, تثير اهتمام القارئ وتطلعاته..».
ويضيف:
«كان ما قاله أخي وصديقي بكر صحيحًا, فأنا أعرف أنني لم أشارك في أحداث سياسية, ولم أتول مناصب إدارية, ولم أكن عضوًا في حزب ولم أكن مسؤولاً عن مشروعات اقتصادية..».
تخيلوا الأديب الذي ألف ما يزيد عن 25 مولفًا بين النقد الأدبي والسيرة والتاريخ, وحقق ما يقارب 52 كتابًا عن أمهات كتب التراث, وله 12 ترجمة من عيون الأدب والنقد والتاريخ, الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية ,,..تردد في كتابة سيرته!!..
حينما قرأت ما قاله, عرفت سر تردد الأدباء الكبار في كتابه سيرهم فأغلبهم «بيتوتي» قضى حياته في عزلة بين القلم والورق, تكاد تخلو حياته من الأحداث والمواقف وهذا ما تطلبه السيرة الناجحة..
ولا أخفيكم أنني «دردشت» قبل كتابة هذا المقال مع الصديق المتخصص د. معيض بن عطية عن (فن السيرة) وعن أساليب من يكتبها.. وأكد لي أن السيرة الرائعة تحتاج إلى قلم شجاع ومبدع ذكي يعرف يختار الأحداث والوقائع المهمة التي تشد القارئ, فالقارئ لا يريد أين درست واسم مدرستك واسم المدينة التي عشت فيها بسرد رتيب وممل.. , ولا يريد احتفاء الكاتب بذاته بل يريد الكشف عما يجهله ويثريه, ويريد المحافظة على ميثاق السيرة الذاتية الأهم الذي هو الصدق في معناه الفني الذي يطابق بين الذات الحقيقية والذات المحكية فيما لا يعرفه القارئ عنها في خيباتها وانكساراتها ومواقفها التي تكشف عن جانبها الإنساني الذي لا يحكى إلا في السيرة الذاتية.. وفي عز حديثنا وأسئلتي, قال لي: «ولكن هناك سير مشوّقة ووصفها بكاسيت (المنوعات القديم), وكأنك تنتقل من أغنية إلى أغنية», أعجبني هذا «الوصف العفوي», والتقطته دون أن يدري لهذا المقال..
لأنني منذ فترة أحاول إقناع صديقي العزيز: جابر القرني بكتابة هذا النوع من السير..
بعدما اكتشفت كنوزًا فنية وثقافية يحملها هذا الإنسان الجميل في ذاكرته من طرائف وغرائب وحكايات مع نجوم الفن والشعر والإعلام ومع شخصيات اعتبارية, لا تمل من سماعها..
كنت قبل سنة أعرف جابر القرني أنه أيقونة من أيقونات الحرس الوطني ونجم لامع يحضر اسمه في مهرجان الجنادرية بالتحديد, وكان معروفًا بنشاطه العملي وقربه من الجميع, ولكن عني أنا, كان تواصلي معه من سنة إلى سنة, وربما لا يتجاوز التواصل نصف دقيقة فقط لتسهيل مهمة مصور أو للحصول على رقم شاعر أو فنان يشارك في الأوبريت, أو للحصول على تصريح قصير عن الأوبريت.. , ومع هذا لم أكن أجهل مكانته وتميزه العملي وهذا ما شهد به أستاذنا الكبير عبدالله الغذامي في يوم تكريم جابر من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في مهرجان الجنادرية33 :
جابر القرني درس عندي في الجامعة, وتابعته مع فعاليات الجنادرية»
رأيته جادًا ونابها في قاعة المحاضرات.
ورأيته نابهًا مبدعًا في ميدان العمل.
تراه وترى قلبه ينبض همة ونشاطًا وحيوية.
مع بشاشة الوجه وطموح التطلع».
حتى تلقيت منه اتصالًا يريد مني التعاون معه ومع الأستاذ هاشم الجحدلي في إعداد حلقات برنامج صنوان في موسمه الثاني, حقيقة ترددت في البداية وطلبت منه مهلة قصيرة للتفكير ولمشاهدة حلقات الموسم الأول الناجح بكل المقاييس, بعد أن أعطاني نبذة قصيرة عن البرنامج وأنه برنامج ليس (مواجهة), وليس للبحث عن الإثارة و(الترند).. بل برنامج ثقافي توثيقي فيه احتفاء بالأديب وبمنجزاته وفيه تسليط الضوء على محطات حياته وتوثيقها بشكل يليق بالضيف.. كان سبب ترددي حقيقة خوفًا من العمل مع قامتين (جابر وهاشم), وكل منهما له مكانته الخاصة في قلبي.. واشترطت السرية بعد موافقتي حتى ينتهي تصوير البرنامج, وبعد الصدى الرائع للبرنامج حقيقة أنا من بادر وأعلن أنني شاركت في إدارة التحرير؛ لأنها تجربة جميلة وأعتز بها ولست مبالغًا في أن كل ضيف تواصلت معه بعد عرض حلقته قال لي: هذه أجمل حلقة لي ..حتى الذي لا يعجبه العجب سمعتها منه...
ولموقفي المحرج بحكم أني عملت مع فريق صنوان الرائع سأكتفي بشهادتين أنصفت البرنامج قبل أن يتوج بجائزة من المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون:
- بعد عرض حلقة الشاعر جاسم الصحيح غرد الشاعر جاسم عساكر بهذه التغريدة:
«تابعت الكثير من الحوارات مع جاسم, وبأمانة فقد كان حوار صنوان استثنائيًا على كل المستويات الجمالية، سواء من ناحية التنوع في الصور والأماكن والإخراج البديع، أو في تنوع وثراء المحاور، أو في إبداع المذيع الأستاذ جابر ونباهته وإضافته رونقًا مميزًا للحلقة، من أروع ما شاهدت.»
- وبعد عرض حلقة الأديب الكبير إبراهيم مفتاح غرد ابنه الشاعر عبدالله مفتاح بهذه التغريدة:
«حوارات كثيرة تلك التي أجريت مع والدي، وكانت تمرّ من خلالي.. إلا أن هذه الحلقة بكل ما فيها، ابتداء من لحظة الوصول مرورًا بالكواليس وانتهاءً بالمغادرة وبث الحلقة، أقول هي الأجمل على الإطلاق. وفي ظني أن السر خلف ذلك هو المذيع والإعلامي الكبير جابر القرني..».
حضرت تصوير عدة حلقات, ولاحظت أن جابر أثناء فواصل التصوير وقبل التصوير وبعد التصوير يدهش الضيف بالمعلومات وبالذكريات ويخفف من إرهاق الضيف مع التصوير الذي قد يستغرق ما لا يقل عن 5 ساعات للحلقة الواحدة.. بالحكايات الظريفة وبالقصائد الجميلة وبالممازحات اللطيفة..
بعد تصوير إحدى الحلقات في قرية الحصامة مع الأديب الكبير أحمد السيد عطيف جلسنا في جلسة يحفها الفل الجازاني من كل صوب أنا وجابر و(ضيفنا مستضيفنا) والشاعر الجميل علي الأمير, وبدأ في تلك الليلة الشعر ينهمر وجابر «يتسلطن» بحكايات وذكريات مدهشة, وفي اليوم التالي غرد أحمد السيد عطيف بهذه التغريدة:
«جابر معروف كمذيع, لكنه في الواقع ذاكرة ثرية تاريخية في الفن وأهله, تاريخ وكواليس الجنادرية مرحلة هو أحد شهودها القلائل وفي ذمته التزام بإخراج كتاب مطبوع».
هذا الطلب هو ما يطالب به كل من جلس مع جابر من المثقفين والمبدعين, وكل من سمع ذكرياته وحكاياته ومواقفه مع (نجوم الفن والشعر.. على سبيل المثال والجمال خالد الفيصل, بدر بن عبد المحسن, خلف بن هذال, مساعد الرشيدي, محمد عبده, طلال مداح, عبد الرب إدريس..).
فلو اختار في سنة صفاء ذهني من ذاكرته الذهبية والنادرة فقط ما يكفي 100 صفحة, وعرضها على مبدع متخصص يراجعها -وهذا لا يعيب - فأغلب من أعرفهم من الأدباء الكبار يعرضون مسودات أعمالهم (سيرهم, روايتهم, كتبهم..) على من يثقون فيهم قبل نشرها للمراجعة والتصحيح والمقترحات..
ولا أدري لماذا اخترت لجابر أثناء محاولة إقناعي له بالكتابة, من قائمة المبدعين الطويلة الذين يعرفهم وأعرفهم, الشاعر المبدع: علي الأمير, صاحب اللغة الفاتنة والحس الإبداعي الرفيع والكتب الجميلة, واليوم أضيف مع علي الأمير د. معيض بن عطية ..
وصدقوني إن تم ذلك سترون ما يستحق قراءتكم ويذهلكم.
وسلامتكم ...