د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في مفهومنا الحاضر لمهمة ساعي البريد، أو صاحب البريد، تقتصر هذه المهمة على توصيل الرسائل والطرود، وحسب، ولا تتعدى ذلك إلى غيره، واسم البريد ليس عربياً في أصله عند أغلب اللغويين، وقد قيل إن أصله فارسي من كلمة بريدن أي العبور، وقيل إنه فارسي من كلمة بريده دم، أي مقطوع الذنب، لأن دواب البريد في تلك الحقبة من الزمن مقطوعة الذنب، وقيل من كلمة بردان، أي الحمل أو الثقل، والله أعلم بصحة ذلك، وقيل إن أصلها لاتيني بمعنى دابة الطريق، ثم أصبحت تطلق على ناقل البريد، والذي سمي فيما بعد صاحب البريد، ومهما يكن أصل الكلمة، فإنها منذ زمن مفردة تدل على معنى أصبح متعارفاً عليه، و قليل من المفردات غير العربية دخلت إلى اللغة العربية، وأصبحت جزءاً منها، كما أن بعضاً من مفردات اللغة العربية دخلت في لغات كثيرة مثل، التركية، والفارسية، والهندية، ولغات إفريقية كثيرة، كما أنها دخلت بشكل لافت في لغات مثل المالطية، أو الإسبانية، ولا غرو في ذلك فالمسلمون بلغتهم العربية، قد عاشوا في بعض تلك المناطق أكثر من ثمانمائة عام.
أول من أدخل البريد بشكل منظم هو الخليفة معاوية بن أبي سفيان، ولاشك أن وجوده بالشام التي تعاقبت عليها الحضارات، ومنها الدولة الرومانية الشرقية واحتكاكه بالدولة الرومانية الغربية، والحضارات الأخرى جعلته يجلب ما يفيد من تلك الحضارات، ويستفيد منها، لهذا فإننا نراه قد شكل أسطولاً بحرياً لمقارعة أساطيل الأعداء المحيطين به، ومن المعلوم أن الدولة الإسلامية الفتية في ذلك الوقت لم تكن تملك أسطولاً بحرياً، لأنها لا تحتاج إليه، لهذا فإن ركوب البحر عند أهل وسط الجزيرة العربية، لم يكن مألوفاً، كما أن البحر الأحمر، والخليج العربي، لا يوجد بهما أساطيل حربية في ذلك الوقت.
والبريد في ذلك الوقت مسؤولية كبيرة، فإن صاحب البريد يحتاج إلى الكثير من الأفراد، والدواب، والمال، فوظيفته تقع تحت مسؤوليتها، نقل الأخبار إلى الخليفة، وحفظ الطريق من قطاعه، كما أن من مهامه بث الجواسيس في كل مكان لنقل الأخبار إليه، لينقلها بدوره إلى الخليفة، وليس لحاكم الولاية سلطة عليه، ولا يطلع على ما يكتبه، وتواصله مباشرة مع الخليفة، كما أن من مهامه المساعدة في حفظ الحدود، ونقل ما يجري هناك ليكون الخليفة على بينة من أمن الثغور من مصدر آخر غير القائد العسكري للثغر، وعندما يحضر صاحب البريد إلى الخليفه فإنه يتلقفه، ويختصر به، ويقدمه الخليفة على الولاة، والوزراء، والحجاب، فهو بمثابة رئيس الاستخبارات في زماننا هذا، مع شيء من الاختلاف البسيط، يقول أبو جعفر المنصور ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون أحد على بابي أعفّ منهم، لأن الملك لا يصلح إلا بهم، أولهم قاضٍ عادل لا يأخذه في الله لومة لائم، وثانيهم صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، وثالثهم صاحب خراج يستقصي لي ولا يظلم الرعية، وصاحب بريد يكتب بوجه الصحة على هؤلاء، هكذا قيل إنه قال، والله أعلم بذلك.
ومن أشهر كتاب البريد الشاعر المشهور أبو تمام الطائي، وهو بالإضافة إلى تميزه في الشعر، فهو شخصية معروفة، ومن وجهاء القوم، بعد أن كان سقاءً في مسجد عمر بن العاص بمصر، وربما أن هذا من قول منافسيه، ويبدو أن توازنه في سلوكه، وقدرته على التعامل مع الشخصيات البارزة، أوصلاه إلى مكانته، فقد ولّاه الحسن بن وهب بريد الموصل، وتوفي بعد توليه بسنتين في عام 231 هجرية، وقد درس العلوم الإسلامية والنحو وغيرها من العلوم، وتنقل بين مناطق ومدن عديدة، مثل الفسطاط، وحلوان، ودمشق، والموصل، وبغداد، وأرمينيا، وغيرها، وقرّبه الخليفة المعتصم، والواثق، والوزراء المشهورون مثل بن الزيات، وعبدالله بن طاهر، ونختم الحديث عنه بقوله:
وإذا أرادَ اللهُ نشرَ فضيلةٍ
طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
وشاعر آخر ولّاه الفضل بن سهل وزير المأمور، بريد جرجان، هو صريع الغواني مسلم بن الوليد، وعاش في فترة كانت تعج بالشعراء المميزين مثل بشار بن برد، وأبو نواس، ولبابه بن الحباب، وغيرهم وقد انغمس في اللهو لكنه لم يكن مثلهم في المجون، وكان حريصاً على إظهار نفسه بالشيخ الوقور، وقد احتضن عصره علماء مثل الكسائي، والخليل بن أحمد، وسيبويه، والنظام ، والأصمعي، وخلف الأحمر، وآخرين.
ومن الشعراء الذين أتيحت له وظيفة صاحب البريد، الشاعر علي بن بسام البغدادي، ولّاه عبدالله بن سليمان بن وهب خطة البريد في مصر عندما كان والياً عليه، وهو شاعر هجاء لم يسلم منه وزير ولا كاتب ولا شاعر، ويقال إنه كان يكتب شعر الهجاء ويعطيه لأبي تمام فينتحله، وقد عاش في بيت ميسور الحال، فقد كان جده مسؤولاً عن النفقة، والكتابة، وعاش والده في رغد من العيش، وهو من الشعراء العققة، فقد هجا والده وأمه وأهله ومن شعره، قوله:
فقل للأعور الدجال هذا
زمانك ان عزمت على الخروج
وهو هنا يهجو أحد الوزراء ومن الشعراء أيضاً عبد الرزاق بن الحسن، المعروف بأبي الثياب، تولى البريد في بخارى، وهناك الكثير من العلماء والشعراء الذين تولوا هذه المهة الحساسة، التى تتجاوز نقل الرسائل إلى ما هو أهم.