أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في كتابِ (طوق الحمامة) للإمام ابن حزم رحمه الله استقراء بَعْض الهفوات اللاشعورية كَبُهْتِ من رأى من بُعدٍ مَن يُشْبه محْبوبَه، ثم سكونُه إليه إذا تجلَّـى له، وهو غيرُه؟!!.. ذَكَرَ ذلك في علامات الْـحُبِّ، وتداعياتِ الخواطر التي قد تدُّل على معنًى لا شُعُوري؛ وهذا التَّفلسف ليس هو غرضي الآن؛ وإنَّما غرضي أنْ أُبيِّن للقارئ أنَّ المفردة القاموسية لم تكن قط (حتى في عهد امرىء القيس) وسيلةً للأداء الأدبيِّ الفني بمعناها المعجمي المباشِر مع أنَّ العرب (كما قالَ العقَّاد، وتُصَدِّقه دلالاتُ المفردةِ اللغوية): حِسّيُو النَّزعة؛ وإنما كان المعنى القامُوْسِيُّ؛ والمعنَى اللُّغَوِيُّ المباشِرُ: هُنَّ مجالُ التَّقْرِيرِ والرَّصْدِ، ومَع إيمانِـي بهذه الحقيقة عن واقع اللغة، واللغة القاموسية: فإنني أرى في اِتِّكاء التَّنظيرِ الحداثيِّ على هذه الحقيقةِ: شعوبيةٌ طائفية، وعبثية عالمية.. لماذا ؟؛ لأنهم قالوا: المعنى المعجمي وحده لا يُنْتِجُ لغةً أدبيةً (؛ أي إيحاءً فنياً)؛ وهذا صحيح.. ثم قالوا: (اللغةُ تُعاني من فقدانِ قِيْمَتها)؛ وهذا أكْذبُ الكذب؛ فاللغة القاموسيةُ لا تعني أنَّ إبداعَ الدلالةِ محصورٌ في المعنى المعجمي التاريخي؛ وإذن فالْإِيْـحاء الفنيُّ ليس من وظيفةِ اللغة القاموسية؛ فكيف تُعاني اللغة من فقدان شيىءٍ لم يكن من قيمتِها أصلاً؛ لأنه ليس هو وظيفتَها؟!.. إنَّ للغة القاموسية مفردة؛ أي بُنية في مدلولِ الكلام تدل على واقعةٍ: إما محسوسة بِحِسٍّ ظاهرٍ، وإما بشعورٍ باطنٍ، أو معقولة، أو مُـتَخَيَّلة.. إنها بنية تدل على نوعِ وجودٍ وحسب.. ولا قيمة لها إلَّا بِمُجَرَّدِ دلالتها على الواقعة كما هي محسوسةٌ، أو مشعورٌ بها، أو معقولةٌ، أو متخيَّلةٌ.. إنها عِلْمٌ صوري يرمز للمعنى المشترَكِ المفهومِ بين الْـمُتحدِّثِ والسامع.. أمَّا مرادُ المتكلمِ مباشرةً أو إيحاء؛ فلا يتكفَّلُ بتوصيلِه النقلَ الأمينَ للمعنى المعجمي؛ بل هناك معنى الكلمة المعجمي، وهناك فكرُها العلمي أو الفلسفي، وهناك إيقاعُها وظلالها.. وهناك براعة الأديب في التأليف، ويجب أنْ تكون أوسَعَ من براعة الموسيقي؛ فَـبُنَى (جمعُ بُنْيةٍ) هُنَّ اللحنُ في السُّلَّمِ الموسيقيِّ، أو الْبُنى في الوزن العروضِيِّ: لا تتجاوز أصابعَ اليد، وقد تألف منها آلاف الألحان والقصائد؛ وأما اللغةُ فهي من ثمانية وعشرين حرفاً!.. وقدفَرَّق محققو أصول اللغة وأصول الفقه كـ(ابن الحاجب)، و(السُّبكي) قبل أنْ يولد الحداثيون بين عملٍ نقليٍّ بحت؛ وهو المعنى المعجمي، وبين عمل عقليٍّ تركيبي، وقد تضافرت كل العلوم على اسْتقْطار فكر الكلمة وظِلالِـها؛ ففي أصولِ الفقه والمنْطِق أُضيف إلى المعنى المعجمي أنواعُ دلالاتٍ أخرى من تَضَمُّنٍ ولزومٍ وإيماء ولحنٍ.. إلخ.. وعن المتلائمات، وعكْس القضايا: تحدث الإمامُ ابن حزم رحمه الله في كتابِه (التقريب) ص263 – 264 عن دلالة الْإِنطواء.. قال رحمه الله: «إذا قلت: زيد يمشي فقد انطَوى لك فيه: أنه متحرك، وأنه ذو رِجل سالمة، وأنه حيٌّ، وأشياء كثيرة».
قال أبو عبدالرحمن: ما أحلى جملة (وأشياءٌ كثيرة) من مثل لسان أبي محمد؛ وأهلُ اللغة تأصيلاً (علمِ الدلالة):هم أهلُ البلاغةِ، والنقد الأدبي، والحسِّ الجمالي؛ فقد أسهبوا في استقراء كل وسائل الإيْـحاء غير القاموسية من تجارِب أدباء الأجيال، ومن مُعْطَيات العلوم المستجدة.
قال أبو عبدالرحمن: استجدَّ علمُ النفس، وتقدَّم فنُّ الموسيقي، والفنُّ التشكيلي؛ وهما فنان قابلان للالتزام كما برهنتُ على ذلك في كتابي (الشرطُ الجماليُّ)؛ فقد أَمَدَّا عِلْمُ الدلالةِ بظلالٍ وصور من الإيحاء.. ومن أجِلَّة الأسلافِ (ابن قيم الجوزية) رحمه الله قرَّر في كتابه (إعلام الموقعين) 3 /105 أنَّ الألفاظ موضوعة للدلالة على ما في النفس.. ومع هذا تراه لا يركن إلى الدلالة المعجمية فيقرِّر في 3 /107 أنَّ مطابقةَ القصد للفظ، والقطعَ بمرادِ المتكلم يكون: (بحسب الكلام في نفسه، وما يُقترن به من القرائن الحالية واللفظية، وحال المتكلم به، وغير ذلك).
قال أبو عبدالرحمن: إنَّ عَيَّاري أدبِ الحداثة من منظِّري الطائفية، ودعك من ذوي العبث الماسوني العالمي: لا يُفَجِّرونَ الكلمة بابتداعهم وبدون قاعدة؛ وإنما يكون تفجيرُهم تفجيراً فنياً مُعْتَدّْاً به بالتَّتلمذِ الأمين لِعلمِ الدلالة، وما تغذِّيه به معطياتُ العلوم.. والمعاناةُ من أجل تفجير الكلمة: سلاحُ فتنة آثم يُلَوِّح به الشعوبي في وجه اللغة، وحقه أنْ يُشَهِّرَ بِه؛ إذْ مواهِبهم الخاملةُ العاجزة عن استقطار الكلمة وتفجيرها؛ لأنه لا وظيفة للغة إلا التعبيرُ عن الشيىءِ كما هو موجود، أو معروف، أو مُتوهِّم؛ وأما الإِيحاء الفني فعملٌ عقليٌّ لا نقلي يعود إلى موهبة الأديب.. وقد يكون الحداثي العيَّارُ خاملَ الموهبة ليس عنده فِكرٌ، ولا تجرِبةٌ تاريخية، ولا توثُّبٌ روحيٌّ؛ فهو لا يعني شيئاً مهما كثرت ثرثرتُه؛ ولهذا يضيق بلغة معجميةٍ تعني شيئاً عامَّاً، ويضيق بدلالات إيحاء تعني شيئاً مما أنتجتْه الموهبة البشرية.. وقد يكون عيَّارُ التنظيرِ من أدباء اللامعقول يرفض الوعيَ ويعتمد بشدةٍ على الوهم والحِلم والْـهِيْبِيَّة وتخدير الطافحين؛ فهذا إذا وُجِدتْ عنده الموهبةُ، وأحسن الاستفادة من تلك الْعَتمات: سَيثْرِي لغةَ الأدب بالايحاء؛ ولكنه قد لا يجد الجمهورَ المتواصلَ؛ لأنَّ الجمهور ليسوا كلُّهم من الهيبيّْيِيْنَ الطافحين، ولغة الإيحاء لا تُثِير إلا بعد مشاركة في تَذَوُّقِ جمال العتماتِ. وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
**
*وكتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمِّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -