عبدالوهاب الفايز
في عالم السياسة لن تجد سوى التعاسة.. عالم مضطرب مجنون، تتلاطم فيه المصالح، وتتصارع فيه الفيلة، والضحية البسطاء، بالذات في إفريقيا!
وأوضاع البسطاء العالقين بين فكي رحى الصراعات وظروف حياتهم اليومية القاسية هي التي تدفعنا للسياسة وهمومها الكبرى.. ليس حباً وعشقاً للمشاكل، بل الذي يجرنا إلى هذا العالم هو الواجب الأخلاقي والأدبي تجاه قضايا الإنسان الأساسية، وأيضًا للوقوف عند الأحداث الجارية الساخنة التي تعطي فرصة التدبر والتأمل.. والحذر.
والمفارقة في عالمنا اليوم الذي يقترب من حرب عالمية ثالثة، هو توقف حالة التعلم والتدبر، وكان الإنسان هو الإنسان لم يتعلم من رحلة البشرية الطويلة، رغم تراكم المعارف والتجارب.
من الأحداث الجارية التي يصعب تجاوزها انقلابات إفريقيا العسكرية. هذه الانقلابات تعيد القارة الغائبة عن الاهتمام فجأة إلى الاهتمام الدولي. وليت هذا الاهتمام يعالج همومها ومشاكلها الإنسانية ويحارب الفقر المزمن حيث تعد موطنًا لأكثر من 60 % من فقراء العالم، ومن المتوقع أن يرتفع هذا المعدل إلى 90 % في عام 2030م. مع الأسف هذا الاهتمام العالمي لم يكن لمعالجة تحديات القارة مع الفقر أو مع الانقلابات العسكرية.
هذه الانقلابات ظلت الحالة السائدة غير المثيرة منذ عقود مضت. فبعد الاستقلال كان أغلب الانقلابات يتم تدبيرها ودعمها من قبل الدول الغربية الكبرى لمواصلة نهب ثروات القارة. والآن الانقلابات تدبر وتُدعم، أو تقاوم وتُرفض، ليس حبًا في الأفارقة.. بل لنهب ثرواتها.
في الشرق الأوسط، طبيعي أن تنمو هذه الحالة، فقد تنازلت القوى الغربية، بالذات أمريكا، عن البنية السياسية التقليدية في المنطقة، وقبل سنوات قالوها صراحة: لا يهمنا هذا الشرق الكئيب المثقل بالمشاكل.. سوف نتفرغ للصين وروسيا! وهكذا تخلت أمريكا عن دعمها للشعوب في المنطقة، سواء في مجلس الأمن أو عبر سكوتها عن تمدد الميليشيات المسلحة التي قادت إرهابًا بالوكالة هدد الأمن الوطني لدول المنطقة. وكان الأسواء هو تكشف دورها الخفي المساهم في زعزعة الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة عبر دعم حركات التمرد في ما عُرف بالربيع العربي.. وكانت الصين هي الدولة التي دعمت المنطقة وتدخلت لدعم الاستقرار وحل الخلافات.
والأمر الآخر الذي لا يسر النخب الغربية هو توسع فتح ملف التورط الغربي المدمر لإفريقيا. وربما الصوت القوي المدوي هو صوت جورجا مالوني رئيسة وزراء إيطاليا. فهذه السيدة التي ترعرعت في الشارع السياسي الإيطالي سوف تدخل التاريخ كأول سياسية أوروبية تقود حالة مكاشفة أخلاقية مع شركائها الأوروبيين، خصوصًا فرنسا. هل هي صحوة متأخرة في الضمير الغربي؟ نرجو ذلك. فحديثها المستمر عن الاستخراب (الآن يستخدم هذا المصطلح بدل الاستعمار) الغربي لإفريقيا ينزع بقية الأقنعة ليكشف الوجه الحقيقي الغربي تجاه حقوق الإنسان. فالنفاق السياسي الغربي انكشف في بدايات حرب أوكرانيا، وها هو الآن يتكشف في الموقف من الأحداث السياسية في إفريقيا.
طبعًا الانقلابات العسكرية على الحكومات المنتخبة هو حالة مرفوضة لأنها سبب مشاكل القارة، فالتداول السلمي للسلطة السياسية هو الأسلم والأفضل. ولعل القاعدة الدولية تظل تحترم هذا المبدأ، فلا يحدث تجزئة للمواقف، فيتم السكوت عن انقلاب عسكري ويتم رفض آخر، وانقلاب النيجر الأخير حالة مرفوضة تمامًا. وهنا يقدم حالة للتأمل: المزعج للأفارقة رؤيتهم فرنسا وبقية دول أوروبا تقف كأول وأكثر الرافضين والمقاومين له، بينما في السابق رحبون بانقلابات مماثلة.
التفسير لهذا الموقف يبرره رغبة الدول الغربية في استمرار الهيمنة على مستعمراتها السابقة. مثلاً، فرنسا ظلت تلعب دورًا تاريخيًا مهمًا في اقتصاد النيجر لا سيما في قطاع التعدين. والاستغلال الاقتصادي للنيجر مستمر منذ بداية الاستعمار في القرن التاسع عشر. فالشركات الفرنسية تولت استخراج وتصدير موارد النيجر القيِّمة، مثل اليورانيوم، وتحصل النيجر مع عائدات محدودة وتدهور بيئي دائم. وتستخدم عمليات مكافحة الإرهاب كذريعة لهذا التواجد الذي يديم ويفاقم النزاع حيث تستهدف الجماعات المسلحة القوات الفرنسية وتنتقم منها، مما يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والعنف.
وهذا ربما يفسر تصاعد المشاعر المعادية للفرنسيين في غرب إفريقيا، فتدخلهم المستمر في النيجر يواجه بالنقد ويعزز المشاعر المعادية لهم، فتدخلاتها العسكرية في القضايا الأمنية لدول غرب إفريقيا تُذكر الأفارقة بحقبة الاستعمار. هذا لن يكون في صالح فرنسا ويعرضها للمخاطر الأمنية. كما أن النزاعات لها عواقب إنسانية وخيمة حيث تؤدي إلى الهروب من القارة، وفقدان سبل العيش، وتدهور الخدمات الأساسية للسكان المتضررين. كما أنه يفرض تحديات على الحوكمة والتنمية والاستقرار الإقليمي.
الحل الأسوأ للنزاع في النيجر أن يأتي عبر التدخل العسكري. الذي يحل النزاعات وينهيها هو تبني الحلول السلمية والمبادرات الدبلوماسية، والأهم تبني برامج التنمية المستدامة. دول القارة تحتاج مساعدتها على تحسين الأمن، وتعزيز مؤسسات الحكم، أي المعالجة الجادة للأسباب الكامنة وراء الصراعات لأجل تحقيق السلام والاستقرار الدائمين في البلاد.
المجتمع الدولي، بالذات الدول الغربية، عليها وحدها مسؤولية إنهاء تواجد الجماعات والميليشيات الدينية المحاربة في وسط إفريقيا وغربها. هذه الجماعات هي صناعة دولية تُستخدم لتبرير التدخل العسكري، كما هو الحال في الشرق الأوسط. الدول الغربية هي التي تقدم التسهيلات اللوجستية، وتسهيلات تحريك الأموال، مع تقديم الغطاء السياسي لهذه الجماعات حتى تقوم بالأدوار المطلوبة منها. والآن نرى كيف تتم مطاردتها والتخلي عنها.
الدول الغربية انفقت القليل على برامج التنمية في إفريقيا، وانفقت الكثير من بلايين الدولارات على بناء القواعد العسكرية وتمويل عقود التسلح وتمويل الجماعات المتشددة. وهذا ساعد على إيجاد بيئة العنف السياسي بكل أنواعه خصوصًا الانقلابات العسكرية التي -مع الأسف- تمر بسلام، وتنطلق الماكينات السياسية والإعلامية الغربية لإضفاء الشرعية عليها!
الذي نأمله أن يكون الوعي السياسي في دول غرب إفريقيا البداية لإنهاء حالة الصراع والتنافس الأوربي، والمنطلق لإيقاف الانقلابات العسكرية وإيقاف العسكرة المستمرة للدول، ووقف التدخل السافر في الشؤون الداخلية، ووقف نهب الموارد.
مؤلم لنا بقاء إفريقيا ضحية التدخل الغربي المستمر.