رضا إبراهيم
لقد قدم العالم الإلكتروني للكبار والصغار، أوسع المجالات لإفراغ مخاوفهم وقلقهم وإقامة علاقات مبهمة مع الآخرين، لإيجاد نوع مزيف من الأُلفة، وبذلك بات عالمهم الإلكتروني الجديد هو ملاذهم الآمن، للفرار من مشقة عالمهم الحقيقي، وسرعان ما تحول عالمهم هذا لوهم كبير، يهدد حياتهم الشخصية والاجتماعية.
والمعلوم أنه توجد هناك أعراض تسمى بـ(الاحتمالية)، وهي الحاجة لقضاء وقت أزيد أمام الويب تدريجياً، ليصل الشاب أو الفتاة إلى درجة الاستحباب المرجوة، مع التناقص المستمر للتأثير الممتع لهذا السلوك، باستمرار ممارسته وظهور أعراض الانسحاب، وهي أعراض تظهر لدى الشخص عند توقفه عن الدخول للويب، وذلك التوقف يحث نوعاً من الإعاقة للأنشطة الاجتماعية والمهنية، عندها يعجز الشاب عن العمل والتعامل مع الآخرين.
وتحدث أحياناً رعشة بالأيدي، يصاحبها توتر وقلق وانشغال فكري حاد بصفحات الويب وما تحويها، ولوحظ أن الشخص عند بداية استعماله الفيسبوك يكتفي بوقت قليل يقارب الساعة وهي فترة زمنية تكفيه لإحساسه بالمتعة، لكن مع تكرار استعماله يتحول تدريجياً من حب الاستطلاع التقليدي، لبروز شعور ملح بالحاجة للمزيد.
يتبعه فقده القدرة على كبح جماح نفسه، وعدم التحكم في التوقف على هذا الفضول الذي بات زائدًا عن حاجاته، رغبة منه في الوصول للمتعة السابقة نفسها، وشعوره بحالة مزاجية معتدلة عند بداية تعلقه بالفيسبوك، إلى أن يشعر عند توقفه عن زيارة مواقع تعود على زيارتها بحالة تُعرف بـ(الأعراض الانسحابية) تصل به لحدة المزاج والقلق والتوتر الشديد والعصبية الزائدة، وأحياناً يشعر بالخمول والكسل وقلة النشاط الملحوظ.
وطالما ركزت الدراسات على ما لمواقع التواصل الاجتماعي من آثار نفسية سيئة، وبالأخص عند الأطفال والمراهقين، حيث أظهرت وجود نسبة كبيرة من المراهقات الإناث، ممن استخدمن مواقع التواصل الاجتماعي، قد عانين من انخفاض ملحوظ بتقديرهن لذاتهن، كما عانى بعضهن أيضاً من النظرة السلبية لأنفسهن، ومنهن من عانى اضطرابات في تناول الطعام لعدم رضاهن عن أجسادهن، ومنهن من عانى الضغوط النفسية والخجل والخوف من استغلال الآخرين لهن، نتيجة لخبراتهم السابقة.
والواقع أن التأثيرات السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي، لم يعان منها المراهقون أو الأطفال فقط، بل عانى منها أيضاً الأكبر منهم سناً، فمن خلال إحدى الدراسات الهادفة لمعرفة تأثير الفيسبوك على طلبة الجامعات، عبر أخذ عينة عشوائية ضمت (400) طالب من طلبة الجامعات. جاءت نتائجها لتؤكد اعتراف عدد كبير منهم، بالتأثيرات السلبية للفيسبوك على مستوى أدائهم الأكاديمي، وظهر كذلك من الدراسة نفسها أن أهم أسباب توجه طلاب الجامعات للإدمان والاشتراك أحيانًا على مواقع الفيسبوك نتيجة لشعورهم بالوحدة والملل وبالأخص عند انتقالهم من مرحلة الثانوية للمرحلة الجامعية، بجانب تواجدهم الدائم مع أشخاص أغراب، يقومون بتبادل المعلومات والحوارات.
وتأكيدهم على وضع معلوماتهم الحقيقية كـ(الاسم والعنوان وإرفاق صورهم الشخصية)، ومنهم -وهي كانت «نسبة قليلة»- من أكد على أنهم يفضلون، التواصل عبر الفيسبوك مع المقربين لهم، بينما النسبة الأكبر والتي تعدت (50) بالمائة أكدت على مدى انفتاحهم على الآخرين، حتى وإن كانوا أغراباً عنهم، وأنهم يتبادلون دوماً معهم الحوارات والأفلام والبرامج المتنوعة.
كما أوضح بحث قام به علماء النفس وخبراء علم الاجتماع والإرشاد، عن نتائج حالات إدمان الفيسبوك، حيث تم التيقن من معاناة بعضهم من اضطرابات في النوم والطعام، وهو ما أكدته شبكة (سي بي إس) الإخبارية بأحد تقاريرها بوجود نسبة كبيرة من الأطفال يتعرضون للتحرشات الجنسية، عبر برامج التواصل الاجتماعي عامةً والفيسبوك خاصةً، ما سبب لهم اضطرابات نفسية مختلفة كالقلق والاكتئاب، وأن نسبة متوسطة منهم تعرضوا للتهديد المباشر، بينما النسبة الأكبر منهم لم يقوموا بإخطار آبائهم أو أولياء أمورهم بتلك التهديدات.
ومنهم من تعرض للإحراج والخجل عند التحدث معهم بذلك الشأن، لكن الإشكال الأكبر الذي أقرته دراسة الحالات نفسها، هو أن ما يزيد عن (40) بالمائة من أولئك الأطفال المستهدفين، كانوا سُذَّجًا إلى حد بعيد بإعطائهم معلومات شخصية حقيقية عبر مواقع الفيسبوك لأفراد لا يعرفون هوياتهم، وهناك أمر أعتبر أخطر ما شغل بال بعض الأطباء والمختصين بالمجال العصبي، عقب طرحهم تحديداً أن الأطفال قد يتأثرون سلباً عند استخدامهم لتلك البرامج، من خلال تبادل بعض أفلام أو مقاطع الفيديو، ومكوثهم كثيراً وتركيزهم الشديد على شاشات الأجهزة، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث تلفيات بخلايا أدمغتهم.
وللتأكيد على ذلك صرح كبير الخبراء بمجال الأمراض العصبية بجامعة «إكسفورد» البريطانية، بأن قضاء وقت طويل باستخدام الأجهزة اللوحية، إنما يؤدي لحدوث تأثير على الموصلات الكهرومغناطيسية بالمخ، وهو ما لوحظ كثيراً لدى حالات عدة بالأطفال، بظهور إشكالات لديهم بمستوى التركيز وعدم القدرة على التواصل، وهناك عدد كبير منهم عانى بشدة من صعوبات بتعلم الرياضيات واللغة. وبدراسة أخرى أجرتها الجمعية النفسية الأسترالية، تبين من خلالها وجود نسبة كبيرة لمن تقل أعمارهم عن (30) عاماً، تعرضوا لأزمات نفسية أهمها القلق والتوتر، كنتاج طبيعي للخبرات النفسية التي عايشوها أثناء إدمانهم على الفيسبوك.
بعد أن اتضح وبما لا يدع مجالاً للشك، استهداف الشركات الاستثمارية المزيفة مجموعة كبيرة من الأطفال والمراهقين، ودفعهم بأسلوب خداعي لمشاهدة المواد الإباحية، التي يكون لها بالغ الأثر السلبي على سلوكياتهم، وتعرض بعضهم للتأثير والتهديد والطلبات الصريحة لاستغلالهم جنسياً أو ابتزازهم بأن يتم الإفصاح عن هوياتهم إلى العامة، ما دفعهم إلى الولوج بدائرة مغلقة، يحيط بها حالات من الرهاب والخوف والقلق، والإصابة بما يعرف علمياً بـ (اضطراب ما بعد الصدمة)، ومنهم من آثر العزلة التامة أو الانتحار.
ووصلت حالات السيلفي عام 2014م، لأقصى مدى يمكن بلوغه، فالتقطت نحو (880) مليار صورة في العام نفسه، أي بمعدل (123) صورة لكل فرد من سكان اليابس، كما خضعت السيلفي كظاهرة مثيرة للجدل لعدد من التفسيرات، حيث أشارت دراسة أجرتها رابطة الطب النفسي الأمريكية، إلى أن انتشار تلك الظاهرة بشكل واسع وحاد في صفوف بعض الشباب، يشير إلى الإصابة باضطراب عقلي لدى مدمنيها، عندما يتجاوز الأمر إلى أن تصبح حالة مزمنة.
وقد شخصت الدراسة نفسها حالة ناشط فيسبوكي كان فاقد السيطرة على نفسه أمام رغبته الجامحة لتصوير نفسه طوال اليوم، ومشاركة الصور بالمواقع الاجتماعية (6) مرات يوميًا على الأقل بشكل مستمر، فما كان من القائمين على دراسة تلك الظاهرة إلا أن قاموا بإطلاق مصطلح (سليفي تيس)، ما يعني حالة مرضية تطلق على الشخص شديد الهوس بالتقاط الصور لنفسه، وبشكل مبالغ فيه إلى حد كبير.
كما وصف المصطلح نفسه، بكونه انعكاس لرغبة جامحة بالتعويض عن انعدام الثقة بالنفس وفجوة بالعلاقة الحميمة، وضمن التحليل النفسي لتك الظاهرة أن الإغراق بتلك الممارسة يعود لإسقاطات نقص أو عُقد لدى الشخص القائم بها، وهذا الإغراق تعبير عن اضطراب نفسي وخلل، يكشفان مؤشرات نرجسية تدفع الشخص لمحاولة إظهار نفسه، وفرضها على الآخرين لفرط إعجابه بنفسه.
وهو على صعيد المجتمع الذي يتفاعل عبر شبكات التواصل الاجتماعي، قد أفرز حالة نفسية مجتمعية أصبح من خلالها الناس، يستطيعون أن يبرزوا أنفسهم في شكل سهل دون الحاجة لأي مهارات سواءً كانت جسدية أو ثقافية، أو التعرض للإحراج بسبب وجود جمهور يخشونه لشعور دائم بالنقص لديهم، بجانب أن الحاجة إلى إثبات الذات، قد تجعل الشخص يغرق بتلك الحالة، كلما شعر بالحاجة إلى تلقي الاهتمام، ومن ثم ينشط في شكل لافت ليعبر عن ذاته.
كما كشفت دراسة أمريكية على غرار الدراسة السابقة، ارتباط سلوك السيلفي بالتصوير بما يعرف بالنرجسية أي الاهتمام الزائد بالنفس، وشملت الدراسة (800) فرد تتراوح أعمارهم بين (18 - 40) عاماً، حيث أفرزوا حجم أنشطتهم بالصور التي ينشرونها على صفحات مواقع الفيسبوك، إضافة لاختبارات تقييمية أخرى للشخصية، وفي الوقت ذاته أكد الخبراء أن الأشخاص الذين يرتبطون بتصوير السيلفي، وقضاء وقت طويل لتعديل الصور ونشرها على الفيسبوك، يرتكز اهتمامهم على ذاتهم بشكل أكبر، ويعتقدون أنهم أكثر ذكاءً وجاذبية من الآخرين.
إضافة لوجود مشاكل في الشعور بالأمان والسلوك المتهور، وعدم التعاطف وعدم مراعاة الآخرين، وبعض السمات المعادية للمجتمع والميل لتضخيم ذاتهم، ما دعا علماء النفس بمستشفى «بريوري» بلندن، لإبداء تحذيرات من أن التقاط الكثير من الصور الشخصية، قد لا تكون مجرد حالة إدمان على التصوير الذاتي، بل مؤشر أولي للإصابة باضطراب تشوه الجسم، المؤدية لعواقب نفسية كالاكتئاب ومحاولة إيذاء النفس، لعدم الشعور بالرضا عن المظهر، عقب ثبوت أن شخصين من بين ثلاثة أشخاص من مدمني السيلفي، يعانون من إضرابات تشوه الجسم.