ناهد الأغا
صوت الناي... ذلك الصوت الشجي العذب، الباعث عنفواناً وجمالاً في النفس والعين التي ترى الجمال، قبل وقوعه على الأذن والمسامع، الصوت الساحر للألباب، والسفينة المُشرعة لنقل المرء وسفره نحو أعماق الذكريات والخيال الخصيب، وتجاوز الحدود والطرقات دون الحصول على تأشيرة سفر، وإبرازه جواز السفر ألبتة.
تستمع بإصغاء، وتنصت لهذه الآهات والأنات، وكأنه يروي أمامك قصصاً وروايات، مليئة بالأحداث والمجريات، التي تراها وتسمعها بقلبك وفؤادك، وتشعر بخروجها صادقة من أعماق النفس، وتعرف طريقها نحو القلب غيباً دونما حاجة لدليل يقوده.
كأنما أنين الناي، الموجوع المشبع بالضيق والضنك، ويترجع مرارة الألم والفقد يدق كنبضات القلب المتعب، الذي تصل سرعة نبضاته إلى حدٍّ لا يمكن لأي أحدٍ قدرة على تتبعه وحساب النبضات والدقات، ما أجمل وصف الشاعر الفذ ابن الرومي للناي وأناته، حين أنشد قائلاً:-
أنصت إلى الناي يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يبث شكايته
ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدرا مزقا مزقا برحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكل من قطع عن أصله
دائما يحن إلى وصله
وهكذا غدوت مطربا في المحافل
أشدو للسعداء، وأنوح للبائسين
الناي صديق وفيٌّ، وأنيس الوحدة، التي تعصف بالفكر والوجد الحائر في الفضاء الفسيح، ومن يتكلم ويبوح ويسمعك أجمل الكلام، ويكمل ابن الرومي قوله بـ:-
وهكذا كان الناي صديق من بان
فمن رأى مثل الناي سما وترياقا؟
ومن رأى مثل الناي خليلا مشتاقا؟
بالزمن الغابر العتيق، والحاضر الذي نعيش، ونحياه بتفاصيله، كان لصوت الناي شجن يسبر جروحاً دامغة في جدران القلب، وسط زحام المشاعر والأحاسيس، كما يزدحم السير والمارة في الطرقات، وكما اجتازت المشاعر وجدان الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن في قصيدته الناي:
في الشارع.. عتمة ونور
زحمة ... واشارات المرور
تاقف على أنفاس الطريق
مشيت أنا.. وهمي العتيق
وقبل التعب... ما يهدني
سمعت صوتٍ شدني
ناي.. في صوتها ناي؟غني وجرحني الشجن
دقات قلبي وقفن
الناي وصوته الشجي، الذي عشقه السعوديون وعُزفت كثير من الأغاني بلحنه وبوحه، مضفية جمالاً وطرباً خلاباً، يأسر النفوس التواقة، رفيق الفنون والأهازيج والألم الجميل لتدفقات القلب ومهجة الفؤاد، كم أطربت مسامعي، وتناهت إلى أعماق نفسي أنغام صوت الناي، وأطلقت الخيال في فسيح واسع لا يعرف الحدود والقيود، فليت كل الجمال كجمال هذا الإحساس.