عبدالمحسن بن علي المطلق
لكل زمن دولة و رجال، ( أي تُتداول الدنيا بين رجالها)، وهكذا.. لأن الدنيا لا تبقى على حال، وهنا أمسك خيطاً أسلسل به على وجهٍ ( أدبي) لا علمي صِرف..مادتي..
لا أدري لما لم أعد- اليوم- أهتم أو يأخذ مني حيزاً ذاك العلم .. الذي بيوم كنت له على إثره مسبطرّاً، لا أذكر يلويني عن سبيله عنان، مضمراً أن عساي أنال منه بغيتي، و تحديداً ما يحمل من فتوحات ترفع بهامة همّتك أن تطال ثرياها وهام سحائبها، من مثل صعود القمر، ومن قبل عالم ما بعد الغلاف الغازي.
وبيوم زرت مقراً تقريبياً يصبّ اهتمامه في بوتقة هذا الجانب (علم الفضاء) ربما يقارب متحف الطيران ب»واشنطن-» العاصمة، لكنه على شكّل مصغّر.. حوى مما أذكر-جواره- ألعاباً من ضمنها كبسولة تحتمل بضعة أشخاص، عبارة عن تصوّر تقريبي للمركبة الفضائية، نصعد عليها فتنطلق ( وهي لا تبرح مكانها )، لكن الحركة التي تبدو عليها ومع الأصوات التي تصدر عن تلك الحركات مع تصوير سينمائي في دائرة من تحتنا أقدامنا- أكرمكم ربنا - وقد أُخذ من تصوير حقيقي لإنطلاق المركبة الفضائية من قاعدتها الأرضية، والقوم وهم أهل الصنعة قد أجادوا الفكرة على نحوٍ كادوا يقاربونها.
نعم كم استمتعت بتلك التي بلغت بي يومئذٍ درجة الانبهار لتزيد من جرعة ما بداخلي (منية ) مبلغ هذا الحلم على وجه من الحقيقة بيوم ..
مضت أيام فسنين لم أدّرك مبلغ تلك المنى .. ، لتبقى على رفّ أحلام لم تتحقق (وكم منّا ممن لديه هذا الرفّ)، المهم أصدقكم..
اليوم أنه لم تعد من تلك المنى أدنى شغف للقاء بها، أدري أن العمر له معطيات، فما أحلام المراهق بمعية عمر من بلغ أشدّه، و هكذا حتى باح الشاعر:
أتريد أن تكون وأنت(شيخ)
كما قد كنت أيام الشباب
بالتأكيد لا، لأنه وكما لكل حال لبوسها، فكذلك لكل فترة عمرية اهتماماتها.. و المنى تترقّى بصاحبها، فكما بالأمس كانت مركبتك عجلة اليوم سيارة وربما إن رُزقت يساراً ألفيتها ( فارهة ..) ، فالمهم هنا هو التسليم لذاك المتحوّل الدنيوي الذي يجعل من بعض الأماني يضمرها انطوى طعمها العمريّ المناسب لها، وتحديداً إن لم تتحقق في وقتها فكم من رغبة مضى وقت طعمها، فلم تعد حين بلغتها خلاف الوقت الموافق لها قد أتت باهتة.
ولعلي أقارب لهذه أن كثيرين إذا فتح الثلاجة في نهار رمضان اشتهى غالب ما يشاهد، بل ويعد نفسه بعد الإفطار أن ينهم فيلهم.. وما إن يفطر إلا وقد تشبّع، فإذا تلك الرغائب انضوت عن التشهّي ( ببساطة لأن المعدة محدودة و..) ، هذا فضلاً عن تنبيه الأطباء بعدم إدخال الطعام على الطعام..
ولهذه المسلّمة ترى المرء يسعى حثيثاً لمطاردة ما يحلم حتى يملّ فيركن للواقع مسلّماً، ربما بعد فترة من ركونه تأتي إليه فلا يلفى ذاته تتلقاها كما هي شرّتها السابقة داخله.. يوم كان حثيثاً يسعى إليها، وهنا أتى علي الجارم- رحمه الله - لهذا المعنى ( وبنظم زخم البناء ):
تحَدَّيْتَ شَمْسَهُ، فَإذَا وَلَّى
تمنَّيْتَ لَمْحَةً مِنْ ضَبَابِهْ
لَمْ يَفُزْ مِنْكَ مَرَّةً بِثَنَاءٍ
فَنَثَرْتَ الأزْهَارَ فَوْقَ تُرَابِهْ
يُعْرَفُ الْوَرْدُ حِينَمَا يَنْقَضِي الصَّيـ
ـفُ، وَيُبْكَى النُّبُوغُ بَعْدَ ذَهَابِهْ
كَمْ نَدَبْنَا الشَّبَابَ حِينَ تَوَلى
وَشُغِفْنَا بِالْبَدْرِ بَعْدَ احْتِجَابِهْ
والبيت الأخير مطروق معناه سلفاً، لأن مراده على طرف لسان أحدنا:
رب يوم بكيت منه فلمّا
صرت لغيره بكيت عليه
.. هذا، على أن الذي يأتي متأخراً خير مما لا يأتي أبداً لكن مع ( قلّ) انبهارك بحضوره، أي هو أخفّ وطأً، وأقل نكالاً على القلب مما لا يأتي أبداً، على روي الشاعر:
ومضى العمر في انتظار نوالها
هنا أحب لزاماً أن نعرّج قبل الختم جلاء أن للندم عجائب، منها ما جاء بالآية: ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ ..) كذاك الذي شاهده صاحبه حين (.. اطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يقول»فاطلع في النار فرآه في وسط الجحيم» والأخير يُعضد بما جاء عن ابن الأعرابي أن(السَّفِلَةُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِدِينِهِمْ ، وسَفِلَةُ السَّفِلَة الذِي يُصْلِحُ دُنْيَا غَيْرِهِ بِفَسَادِ دينه)- تفسير القرطبي-.