أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: ههنا وقفات:
الوقفة الأولى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصَّ على أننا أُمَّة أُمِّية لا نكتب ولا نحسب، وأن القرآن بلسان عربي مبين، وما أُثر عن القرون الممدوحة التفسير بهذا المنهج، ولا الاقتفاء لهذه الظنون، وإنما وُجِد عند المتأخرين في كتب التفسير الاستدلال بحروف الجَّمل لسورة الروم، وهذا لم يوجد عند العرب إلا في وقتٍ متأخر؛ وإنما وجدوه عند أهل الكتاب، وما كان العرب يتعاملون بهذا في مخاطبة بعضهم بعضاً.. وعلى فرض أن ذلك من ممارسة بعضهم - وهو فرض مُحالُ الواقع - فالحروف المُقطَّعة في القرآن الكريم لا تنسَّق مع حروف أبجد عدداً على دلالة تنسجم مع السياق، وليس في نصوص الشرع المطهَّر نص واحد يوصي بالتفسير بتلك الحروف.. وأما الحروف غير المقطعة التي هي أصول في الكلمة فلها دلالتها المعروفة عند العرب، وإلغاء دلالتها وادِّعاءُ دلالةٍ أبجدية هي من تحريف الكلم عن مواضعه.
والوقفة الثانية: أن نوفل لم يذكر الدلالة من هذا الإحصاء ولو ادِّعاءً، والظاهر من صنيعه هو تساوي العدد بين البصر والملكة الحاسة التي تُبصر؛ فهذا مدفوع بأن الأعداد غير متساوية كما سأذكر إن شاء الله، وأن هذه الظاهرة لو صحَّت لا محذور فيها في نفسها، ولكنَّ المحذور الزعمُ بأن الله أراد هذا المعنى.. ثم إن جميع النصوص عن البصر والملكة الحاسة في مصب واحد على معنى واحد، فالفؤاد مسؤول عن بصيرته، والبصر يُطلق على الرؤية وعلى حاسَّة الرؤية.
والوقفة الثالثة: أن القلب أو الفوائد محل الاعتقاد، وليس هو محل البصيرة إلا إذا كان الاعتقاد عن برهان صحيح، ومحل الوعي بالمشاعر المفرحة أو المؤلمة؛ فيكون القلب اطمأن بمعتقد صحيح، والاطمئنان من مشاعر القلب؛ فإن تخلَّف الصدق مع النفس في التفكير، وصدر التفكير عن نتيجة باطلة بقيت مشاعر القلب في قلق واضطراب يعلمها المفكِّر من نفسه، ويكبِتها بالعناد والأهواء، ولكنَّ مشاعر القلق لا تزول عن القلب حتى يَرْسُوَ القلب على معتقد صحيح؛ وإذن فتعداد نوفل غير منطبق على الأرقام التي يذكرها.. ثم ماذا لو انطبق وهو لم يذكر لذلك دلالةً معقولةً أو غير معقولة؟.
والوقفة الرابعة: أنه لا فرق بين بصيراً وبصير؛ فالغرض معنى المادة.. إلا أن الرقم الجمعي الذي ذكره باقٍ بحسبه، ولم يذكر دلالته على دعواه الإعجازَ العددي.
والوقفة الخامسة: لا علاقة للبصر بالبصيرة؛ فالعدد الجمعي غير متحقق؛ فالبصيرة في عرف أهل اللغة رؤية القلب بإنارة العقل، والبصر رؤية العين المباشرة.
والوقفة السادسة: لو صح هذا الجمع - وهو لا يصح - فلم نجد عنده سراً للعدد 148.
والوقفة السابعة: أن قوله عن البصر (هو الرؤية الظاهرة) كلام غيرُ موصِّل، بل هو رؤية الأشياء المحسوسة المرئية مباشرة؛ فالمرئيُّ لا الرؤية ظاهر، أو بمعاناة وتحديق وترداد؛ فتكون الرؤية قد ظهرت، ويكون المرئي قبل ذلك شديد الخفاء على الرؤية.
والوقفة الثامنة: أن رؤية العين داخلية، ورؤية العقل داخلية؛ لأن ذينك من قُوى النفس الداخلية، ولكن رؤية العين إدراك مَعْرَفي لا علمي - لأن العلم معرفة وزيادة تُنتج الأحكام بالاستنباط والتجربة وإدراك الحواس الأخرى -، ورؤية العقل علم ومعرفة تتصوَّر هيئة الخارجي وأحكامها، وتستحضرها وقت الحاجة؛ فأصبح من الخطإ والخطل قول نوفل: (البصر الرؤية الظاهرة، والبصيرة الرؤية الداخلية عن طريق الحس).
والوقفة التاسعة: أن القرآن الكريم والحديث الشريف وكلام العرب: يُكرِّر بعض الأحكام والأخبار حَضَّاً وتحذيراً وموعظةً؛ فيتكَّرر بالتبع من المفردات ما يليق بالسياق.. ولغات العالم محصورة الحروف والأوزان والروابط والتركيب البلاغي والنحوي مهما اتَّسعَت وسائل الدلالة، ولكنَّ المدلول عليه غير محصور؛ فأيُّ عجبٍ في تكرار الدَّوالِّ المحصورة على معانٍ غير محصورة؟.
والوقفة العاشرة: أن في تكرار بعض الحروف قِيَماً جمالية يستنبطها الأدباء، وتكون عند صاحب النص تِلقائية عن غير قصد، وتكون صناعةً بديعية، وهذه الظاهرة لا تُؤخذ من معنى في الحرف نفسه بدلالةٍ وضعية ورِثها العُرف اللغوي؛ وإنما ذلك لخاصية في الصوت، ولإمتاع بديعي كالذي يتكرر من حروف الجناس مثل: عبرة ورعب، وكريمة وكريهة، وقريب ورقيب، وحدره ودحره.. إلخ.
والوقفة الحادية عشرة: أن للحروف خصائصَ كالجهر والهمْس والإطباق والغنَّة؛ فهذه خصائص صوتية تُعْرَفُ بها مخارجُ الحروف، ويتحدَّد بنهاية المَخْرج اسم الحرف، ويحصل بأدائها من مخارجها جمالٌ في الصوت، ووضوحٌ في المعنى.
والوقفة الثانية عشرة: أن للحروف التي ليست أصلاً في الكلمة معانيَ ليست في الحرف نفسه، وإنما اكتسبَ الحرفُ المعنى من السياق لَمَّا صار رابطةً من حروف المعاني.
والوقفة الثالثة عشرة: أن لبعض الأعداد فضيلة من جهة أن الله وِتْر يحب الوتر.. ولها فَأْل قد يتيامن به بعض العرب لمطابقة حادثةً ممتعةً بذلك العدد، ولها تشاؤم معاكس لِما سبق كتشاؤم الغربيين من عدد (13)؛ فهذا سلوك بشري حُرٌّ مُفْترى ولا سيما ما كان تشاؤمياً، وأما التفاؤل فمحمود إذا لم يكن للعدد المتفاءَلِ به حادثة أخرى مشؤومة.
قال أبوعبدالرحمن: وبحمد الله انتهت وقفاتي برقم (13) إرغاماً للمتشائمين.. وبعد هذا كله فما يسمونه إعجازاً عددياً عبث بكلام الله سبحانه وتعالى، وبكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغة عرِب السليقة التي نزل بها الشرع.. والفائدة من الإحصاء العددي أمر واحد مفهوم من كلام العرب، وهو العلم بأهمية ما ذُكر مرَّاتٍ كثيرةً من جهة أنه حق يحضُّ عليه الشرع، أو من جهة أنه باطل يحضُّ على اتقائه، أو لأن فيه مزيدَ عبرة ككثرة القَصص في القرآن الكريم عن موسى وإبراهيم عليهما السلام، أو لأن الله أمر به كالدعاء ثلاث مرات، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.
**
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -