رضا إبراهيم
جرى استخدام لفظ «العولمة» في اللغة الإنجليزية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن بسياق التعليم فقط، ومع مرور العقود، كان يتم استخدام مصطلح العولمة على فترات متباعدة من قبل الباحثين والإعلاميين، إذ لم يكن معروفاً بصورة واضحة، ويُعد عالم الاقتصاد الفرنسي فرانسوا بيروكس (1903 - 1987م) أول المستخدمين للمصطلح بذات المعنى، الذي بات يحاكي الاستخدام الشائع الحالي، وذلك في مقالاته منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، حيث استخدم بيروكس مصطلح «المونديالية» وذلك اللفظ يعني حرفياً «العالمية» وفي منتصف الثمانينيات قام الاقتصادي الألماني ثيودور ليفيت (1925 - 2006م) بنشر المصطلح بين العامة، وجعله أقرب إلى الأوساط التجارية التي سادت فيما بعد.
حيث جرى استخدام مصطلح العولمة، لوصف تزايد الترابط بين ثقافات واقتصاديات العالم والسكان الناتج عن التجارة عبر الحدود، سواءً كان في السلع أو الخدمات أو التكنولوجيا وتدفقات الاستثمار والأشخاص والمعلومات ..إلخ، لوجود أفكار ومؤسسات عالمية لا تنتمي لدول معينة أو محددة تمارس نشاطها دون أي عوائق عبر العالم.
وفي تعريف آخر للعولمة فهي تعني العملية التي تنتشر من خلالها الأفكار والمعرفة والمعلومات والسلع والخدمات في كافة أنحاء العالم، ومن ناحية أخرى يمكن وضع مفهوم آخر للعولمة، على أنها عملية التفاعل والتكامل بين الأفراد والشركات والحكومات في جميع أنحاء العالم، كما عرّف آخرون العولمة على أنها العملية التي يتم بمقتضاها إلغاء الحواجز بين الدول والشعوب، والتي تنتقل فيها المجتمعات من حالة الفرقة والتجزئة إلى حالة الاقتراب والتوحد، ومن حالة الصراع إلى حالة التوافق، ومن حالة التباين والتمايز إلى حالة التجانس والتماثل.
وهنا يتشكل وعي عالمي وقيم موحدة تقوم على مواثيق إنسانية عامة، وهي تعاظم شيوع نمط الحياة الاستهلاكي الغربي، وتعاظم آليات فرضه سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وعسكرياً، وذلك بالأخص عقب التداعيات العالمية، التي نجمت عن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الشرقي في بداية التسعينيات، كما عرفها الفيلسوف والكاتب المصري الشهير الدكتور مصطفى محمود (1921 - 2009م) بقوله «إن العولمة مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحيث لا يبقى منه إلا خادم للقوى الكبرى»، والعولمة على غرار أي مفهوم آخر كان لها إيجابيات وسلبيات.
وأما عن الجانب المستحب «الإيجابي» منها، ففي الأعمال التجارية استخدمت العولمة في سياق اقتصادي لتدعيم الاقتصاديات المتكاملة التي تتميز بالتجارة الحرة، وكذلك التدفق الحر لرأس المال بين الدول، وسهولة الوصول للموارد الأجنبية بما فيها أسواق العمل، بهدف تعظيم العوائد والاستفادة منها للصالح العام، وهناك عدة تغييرات تكنولوجية حديثة لعبت العولمة دوراً فيها، أهمها الاتصال بشبكة الإنترنت، حيث زادت الشبكة من تبادل وتدفق المعلومات والمعرفة، والوصول إلى الأفكار وتبادل الثقافة بين الناس من مختلف الدول.
كما ساهم الإنترنت في سد الفجوة الرقمية فيما بين الدول الأكثر تقدماً والأقل تقدماً، وفي مجال تكنولوجيا الاتصالات أدى إدخال تقنيات (جي 4 - جي - 5) إلى زيادة سرعة واستجابة شبكات الهواتف الجوالة والشبكات اللاسلكية بشكل كبير جداً، وتعتبر زيادة السرعة وعرض النطاق الترددي من بين أهم مزايا تقنية (جي 5).
وحول إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، فهي تقنيات تعمل على تمكين تتبع الأصول أثناء النقل وأثناء انتقالها عبر الحدود، ما يجعل إدارة المنتجات عبر الحدود أكثر كفاءة من ذي قبل، وأما عن تقنية (بلوكشين) فقد أتاحت هذه التقنية تطوير قواعد البيانات والتخزين اللامركزية التي تدعم تتبع المواد بسلسلة التوريد، وسهلت البلوكشين الوصول الآمن إلى البيانات المطلوبة في العديد من الصناعات، مثل الرعاية الصحية والخدمات المصرفية، وجعلت عملية فحص المستندات بمركزية وشفافية عملية سلسة، قوَّضت كثيراً من أعمال الفساد والاختراقات.
وفيما يخص وسائل النقل، سهلت التطورات في تكنولوجيا التنقل بكل أنواعها، حركة الأشخاص والمنتجات، كما أن التغييرات في تكنولوجيا نقل قطع الغيار والمواد الخام ولوجستيات الشحن والمنتجات النهائية حول العالم، تمت بشكل أكثر كفاءة.
وبمجال التصنيع أدت التطورات مثل الأتمتة والطباعة ثلاثية الأبعاد، إلى تقليل القيود الجغرافية في الصناعة التحويلية، حيث تتيح الطباعة ثلاثية الأبعاد إرسال التصميمات الرقمية إلى أي مكان وطباعتها بشكل فعلي، ما يجعل الإنتاج الموزع على نطاق أصغر بالقرب من نقطة الاستهلاك أسهل، كما عملت الأتمتة على تسريع العمليات وسلاسل التوريد، ما يمنح القوى العاملة مزيداً من المرونة وتحسين الإنتاج.
ومن ثمار العولمة أيضاً أنها غيرت الطريقة التي تتفاعل بها الدول والشركات والأفراد، وبشكل أكثر تحديداً غيَّرت العولمة طبيعة النشاط الاقتصادي بين الدول، ووسعت التجارة وفتحت سلاسل التوريد العالمية، ووفرت الوصول للموارد الطبيعية وأسواق العمل، وقد أدى تغيير طريقة التبادل التجاري والمالي والتفاعل بين الدول كذلك، إلى تعزيز التبادل الثقافي للأفكار.
والعولمة أزالت الحواجز التي تفرضها القيود الجغرافية والحدود السياسية، ومكنت الشركات في دولة ما من الوصول إلى موارد دولة أخرى، والذي أدى إلى المزيد من الوصول المفتوح لتغيير طريقة تطوير المنتجات وإدارة سلاسل التوريد وتواصل المؤسسات والشركات، وبذلك حصدت تلك المؤسسات مواد أولية بأرخص الأسعار، وتمكنت من جلب عمالة بأقل تكلفة أو أكثر مهارة، ووصلت إلى الطرق الأكثر فاعلية لتطوير المنتجات، ومع وجود قيود أقل على التجارة أظهرت العولمة فرصاً متعددة للتوسع، وأدت لزيادة التجارة وإلى تعزيز المنافسة الدولية.
ما أدى بدوره لتحفيز الابتكار، وببعض الحالات تبادل الأفكار والمعرفة، ويشير مريدو العولمة إلى تحسين الاهتمام بحقوق الإنسان وذلك على نطاق عالمي، وإلى فهم مشترك لتأثير الأفراد والإنتاج على النظام البيئي، وتعزيز التفاهم الثقافي المشترك، كما يرى المدافعون عن العولمة أنها زادت القدرة على التنقل والسفر لتجربة الثقافات الجديدة، باعتبار ذلك جزءاً إيجابياً من العولمة، يمكنه المساهمة في التعاون الدولي والسلام.
وفيما يخص الجانب المكروه (السلبي) من العولمة، فعلى الرغم من نظرة العديد من المؤيدين للعولمة، على أنها طريقة لحل المشكلات الاقتصادية المنهجية، إلا أن النُقَّاد يرون أنها تزيد من عدم المساواة العالمية في أسواق العمل على وجه الخصوص، عندما ينتقل الناس عبر الحدود للبحث عن وظائف ذات رواتب أعلى، أو عندما تستعين المؤسسات أو الشركات بمصادر خارجية للعمل والوظائف لخفض تكلفة أسواق العمل، تبع ذلك تقويض السياسات الوطنية والثقافات المحلية.
بجانب إضرار العولمة بالنظام البيئي فعلى عكس ما ذكره مؤيدي العولمة، ظهر أن نقل البضائع والأشخاص بين الدول، يولد الغازات الدفيئة وكل الآثار السلبية على البيئة، فالسفر والتجارة العالمية أدى في بعض الأحيان وعن غير قصد، إلى نقل أنواع غازية إلى النظم البيئية عبر الحدود، لميل الصناعات كصيد الأسماك وقطع الأشجار، للذهاب حيث تكون الأعمال التجارية أكثر ربحاً، أو تكون اللوائح الخاصة بها أقل صرامة.
الأمر الذي أدى بدوره إلى الإفراط بأعمال صيد الأسماك، وإزالة غابات عن بكرة أبيها في بعض أجزاء من العالم، ومع نقل الشركات عملياتها إلى الخارج لتقليل التكاليف، يمكن لمثل هذه التحركات القضاء على الوظائف، وزيادة معدلات البطالة في قطاعات البلد الأم، وفي النهاية تخفيض مستوى المعيشة، ومن ناحية أخرى سهَّلت العولمة بل وزادت من حالات الركود العالمي، وأوضح مثال على ذلك هو مدى تشابك الأسواق العالمية، وكيف أمكن للمشكلات المالية بدولة أو منطقة ما، أن تؤثر بسرعة كبيرة على أجزاء أخرى من العالم.
والعولمة زادت من احتمالية انتشار الأوبئة، لأن زيادة السفر لديها القدرة على زيادة مخاطر الأوبئة، ويعتبر تفشي وباء (إنفلونزا الخنازير) عام 2009م ووباء (إيبولا) عام 2014م، وانتشار فيروس (كورونا) في عامي (2020 - 2021) أمثلة جلية على الأمراض الخطيرة التي انتشرت بسرعة في معظم دول العالم.
وعن الإضرار بالهويات الثقافية، فقد أشار منتقدو العولمة إلى دورها في تدمير الهويات الثقافية الفريدة للسكان الأصليين، من خلال اللغات والعادات التي قد تأتي مع الحركة الدولية للشركات والأفراد، وفي ذات الوقت قادت شبكة الإنترنت ومنصات ووسائل التواصل الاجتماعي هذا الاتجاه، حتى دون انتقال الأفراد أو التجارة.
ولا شك في أن عولمة السلاح، هي جزء لا يتجزأ من عولمة الاقتصاد، بعد أن باتت أسواق السلاح من أهم الأسواق الاقتصادية، والتي يسيطر عليها مبدأ «الربح» بالمقام الأول دون النظر لأي «اعتبارات أخلاقية»، وظهور شركات متعددة الجنسيات لصُنع ونقل الأسلحة، باعتبارها أحد أهم سمات العولمة، إذ إن الأنماط الجديدة لتجارة الأسلحة العالمية وبالأخص الأسلحة الفردية، وفرت نافذة عريضة في تأجيج النزاعات والحروب الأهلية، حيث تزداد أحجام تلك التجارة بشكل مستمر، وذلك عند نشوب أي حرب أو صراع مسلح طائفي أو إقليمي.