علي الخزيم
- ليس من السهل تحديد تعريف قاطع شامل لمعاني الصداقة وروابطها السامية، فالصداقة مما لا نتعلمه في المدارس وحَسب؛ بل إنها مما نستلهمه بميادين الحياة منذ الولادة ويفترض أنها تكبر وتنمو وتتطور معنا ولا تَفنَى وإن فنينا، فالصداقة أشمل وأكبر من أن تُلوِّنها السنون او يُلوِّثها غبار أيام العمر!
- لا أميل إلى تحديد يوم عالمي للصداقة كما أقرَّته الأمم المتحدة وحددته بتأريخ 30 / 07 الميلادي للاحتفاء بمفاهيم الصداقة، فإني أتطلع لصداقة لا تَفتَر ولا يتبدد عَبِيرها، ولا يَشُوب بريقها الصدأ ولا تُعكِّره خلافات عابرة.
- ترى المنظمة الأمميَّة بأن الصداقة بين الأفراد والجماعات والشعوب عامل مُلهِم يعزز جهود السلام، ويبني الجسور لربط الجماعات لمواجهة وتصحيح أنماط مغلوطة، والمحافظة على الروابط الإنسانية (واحترام التنوع الثقافي)! فما بين القوسين آنفاً أقف عنده لفهم ماهية التنوع المقصود، فتراهم بالغرب يرون (شذوذهم الجنسي والمِثليَّة) مما يُحترم؛ وبالمقابل يرون أن حرق نسخ القرآن الكريم حرية رأي!
- أرباب اللغة يُعرّفون الصداقة بأنها: مأخوذة من فعل صَدَقَ، وعكس الكذب، فالصديق هو من يصدق صاحبه، أي يكون صادقا معه ومُصدقا له بقلبه ولسانه، أو كما قال ابن برد:
(فعشْ واحداً أو صِلْ أخاكَ فإنَّه
مُقارفُ ذَنْبٍ مَرَّةً ومُجَانِبُهْ
- في الصداقة مجال رحب للانعتاق من الانطوائية والعزلة الممقوتة، وتجد بها الأنفس امتزاجاً واندماجاً مع أنفس وقلوب تتماثل معها أو تقترب منها فتتعاضد بالتضحية وتتعاهد بالمسالمة والمحبة؛ ويؤكد هذا الشاعر الواسطي:
(تعارفُ أرواحُ الرِّجال إذا التقوا
فمنهم عدوٌّ يُتَّقى وخليلُ).
- وتُعَد الصداقة منهلاً عذباً للأصفياء الصادقين المُطَهَّرين من نوازع (الانتهازية والغدر والخيانة)، وهي ركيزة لمن يؤمنون بها كوسيلة نظيفة للنهوض بالعلاقات بين الأفراد والأُسر والتوافق بينها بعيداً عن المصالح الذاتية، ويفسره الشافعي:
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
فلا خيرَ في ودٍ يجيءُ تكلفا
- تسجل بعض المؤسسات والمنظمات الرسمية وغير الرسمية بدول الغرب أرقاماً ترى أنها تحمل إحصاءات تُعبِّر عن مدى قوة تأثير الصداقة وفاعليتها لبناء المجتمعات، وحين التدقيق تجد أنها مبنية على مفاهيم تربوية وأخلاقية وثقافية تناسبهم وحدهم وأرادوا تعميمها على خَلق الله بكونه الواسع.
- ومما يقال بالغرب: إن المظاهر الجسدية والميول الجنسية واختلاف الأذواق بالملبس والشعر ونحوه؛ لا يؤثر على موازين الصداقة، ولا يجب اتخاذها سبباً للفصل بين الناس وقطع علاقات الصداقة بينهم، وفنَّدهم حكيم عربي بقوله:
إِيّاكَ تجنِي سُكَّراً مِنْ حَنْظَلٍ
فَالشَّيْءُ يَرْجِعُ بِالمَذَاقِ لأَصْلِهِ
- ومن التجارب فإن الصداقة الحقَّة وإن غابت فهي كالشمس لا تلبث أن تعود مشرقة متجددة، وإنها وإن ذابت فإنها كما تذوب ثلوج المروج حين تكشف عن اخضرار مُحبب يُزهر بما يَرُوق النظر، فهي الصداقة عند الأصدقاء الأوفياء الأنقياء الذين إذا حضروا تلمسوا نبرات الأسى عند الصديق فتحضر معهم لمسات إسعاد النفوس وترميم وجع القلوب، وقد قيل:
وَمَن لا يُغَمِّض عَينَه عَن صَديقِهِ
وَعَن بَعضِ ما فيهِ يَمُت وَهوَ عَاتِبُ