فضل بن سعد البوعينين
تمضي المملكة في احتضان القمم والاجتماعات التشاورية العالمية والإقليمية، رغبة منها في تحقيق التنمية والأمن والاستقرار العالمي. اجتماع جدة التشاوري أحد أهم اللقاءات الدولية التي احتضنتها المملكة، والموجهة لإنهاء الأزمة الأوكرانية وبناء أرضية مشتركة تمهد الطريق لإنهاء الحرب وإحلال السلام.
مستشارو الأمن الوطني وممثلون لأكثر من 40 دولة ومنظمة دولية، بما فيها الأمم المتحدة، شاركوا في الاجتماع التشاوري، الذي رأسه الدكتور مساعد العيبان، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء مستشار الأمن الوطني، ما يعكس أهمية المملكة ومكانتها وما تحظى به من تقدير على المستويين الإقليمي والدولي.
سعت المملكة منذ بداية الأزمة إلى دعم الحلول السياسية، وإنهائها في أسرع وقت، وأسهم سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من خلال اتصالاته المتكررة ولقاءاته بأطراف النزاع في تقريب وجهات النظر، ومعالجتها بالطرق السلمية. وهو ما عبر عنه البيان الختامي الذي أشار إلى «أن هذا الاجتماع يأتي استمراراً للجهود والمساعي الحميدة للأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، التي يبذلها في هذا الشأن منذ شهر مارس لعام 2022م».
اجتماع جدة التشاوري ما هو إلا جانب مهم، من حزمة المبادرات والجهود التي تبذلها المملكة لإنهاء الأزمة، والحد من انعكاساتها السلبية على أمن وسلامة البشر، وأمن الطاقة والغذاء وسلاسل الإمداد والتوريد، وإمكانية تحول الأزمة إلى حرب عالمية في حال تطور أدواتها واتساع رقعتها لتشمل دولاً أخرى.
لم تكن المملكة طرفاً في الحرب، إلا أن استشعارها بالتزاماتها الدولية، وأهمية إحلال السلام، وامتلاكها علاقات دولية وثيقة مع جميع الأطراف وثقة العالم بها دفعها للتدخل من أجل الإسهام في الجهود الدولية الرامية لإنهاء الأزمة. فمشاركة أكثر من 40 دولة في الاجتماع يعني التقاء الحلفاء والمؤيدين والمعارضين لطرفي النزاع، وهو أمر يحتاج لكثير من الثقة بالدولة المضيفة، وقادتها، ورئيس الاجتماع الذي سيكون له دور مهم في معالجة التحديات، وتهيئة قاعدة صلبة للانطلاق منها نحو تقريب وجهات النظر، وأجزم أن الدكتور مساعد العيبان، يملك من الدبلوماسية، والخبرات الثرية، والتمرس في معالجة الأزمات والنزاعات والملفات الحدودية، والكفاءة الكثير ما يجعله أهلاً لإدارة الاجتماع وتجويد مخرجاته وتنفيذ توجيهات القيادة للمشاركة بفاعلية لإنجاح الجهود الدولية الموجهة نحو تحقيق السلام.
فالأزمة بلغت مرحلة اللاعودة، مع عدم قدرة طرفي النزاع على حسم المعركة، وارتفاع المخاطر الدولية والتداعيات الإنسانية والاقتصادية التي تهدد العالم، ما يستوجب التدخل الدولي لمعالجتها وإيجاد الحلول الناجعة لها، وهو ما تسعى المملكة للمساهمة فيه. دخول دول أخرى في النزاع من المخاطر المرتفعة التي ستسهم في اتساع رقعة الحرب، وربما استخدام أسلحة غير تقليدية، وتداعياتها على العالم وليس أطراف النزاع فحسب. استخدام الغذاء العالمي كسلاح من روسيا وأوكرانيا، سيؤدي إلى مجاعة تتأثر بسببها الدول الفقيرة أولاً، ثم دول العالم الأخرى. الأمر عينه ينطبق على سلاسل الإمداد التي قد تشهد إنقطاعاً مفاجئاً بسبب استدامة الحرب ودخول أطراف أخرى فيها.
يبدو أن هناك قناعة لدى أطراف النزاع بأهمية الحلول العاجلة لإنهاء الأزمة، وإن لم يتم التصريح بها، فالدمار الشامل الذي تعرضت له أوكرانيا، والتداعيات الإنسانية، والعقوبات الاقتصادية التي بدأت في إحداث أثرٍ عميقٍ في الاقتصاد الروسي، إضافة إلى المخاطر المهددة للدول الأوروبية يفرض على أطراف النزاع العودة لطاولة الحوار من أجل إنهاء الأزمة الطاحنة. الحلول الدبلوماسية، التي أصبحت المملكة جزءاً رئيساً منها، أشبه بـ «خطة إنقاذ» لروسيا و أوكرانيا، والعالم أجمع، وهو ما يفترض أن يتعامل بموجبه طرفا النزاع، والدول الحليفة لهما، وبخاصة الدول الأوروبية الأكثر انكشافاً على الأزمة. انتشار الميليشيات، ودورها الرئيس في الحرب من المخاطر التي تهدد الدول الأوروبية، فالسيطرة عليها ليس بالأمر الهين، وتحولها مستقبلاً إلى أدوات تديرها المافيا العالمية من الأمور المتوقعة، ما يعني إمكانية تحول أوروبا إلى منطقة ملتهبة، تفتقر لأدنى متطلبات الأمن.
تعتبر الأزمة الروسية الأوكرانية هي الأخطر على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، ولعلها أعادت ذكرى الحرب العالمية بتفاصيلها المؤلمة، واستمرارها يعني إمكانية تمددها نحو الدول الأوروبية، واستدامة تداعياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتأثيرها السلبي على العالم أجمع، ما يتطلب الكثير من الجهود الدولية لوقفها، وإيجاد الحلول السياسية الناجعة لإنهائها، وهو ما تسعى المملكة للمساهمة فيه، انطلاقاً من ممارساتها المسؤولة، وثقة أطراف النزاع والعالم بها، وإمكانياتها، ورؤيتها القائمة على تحقيق التنمية الشاملة والأمن والاستقرار.