سلمان بن محمد العُمري
أكاد أجزم أن مفردة (الظلم) وموضوعها من أكثر الموضوعات التي تناولها الخطباء على منابرهم والشعراء في قصائدهم والعامة في مجالسهم، والكُلُّ مجمعون على تحريم الظلم وكراهيته في نفوس البشرية.
يقول الصديق المحامي ثامر السكاكر: (سمعت مرة مقولة «لا يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم الله منه، ومن تمام انتقام الله منه، أن المظلوم يراه حتى يشفي غليله منه».
ويؤكد السكاكر: «ووالله إني رأيتها ثلاث مرات في قضايا كان أهلها ظلمة، واحدة وقفت عليها واثنتان أعرف تفاصيلهما، وكل ماشفت ظلماً تذكرت الثلاث هذه، وأقول في نفسي بينتقم الله منهم»).
وليس شيء أعظم ولا أكبر ولا أمقت من أذية المسلم بالأقوال أو الأفعال، وكل شيء يغفره الله للعبد ويسامحه إلا الشرك وحقوق الآخرين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمةٌ لأخيه أو شيء فليتحلله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» (رواه البخاري)، ومعنى فليتحلله أي ليسأله أن يجعله في حلٍّ من قِبله، ومعناه: أن يقطع دعواه ويترك مظلمته. وثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين» (رواه مسلم).
قال الشيخ السّعدِي -رحمه الله-: مَن تَتبّع عورات المسلمين تَتَبّع الله عَورته وفَضَحه بين العباد وأظهر للناس عُيوبه التي كان يُخفِيها، ومَن تَغافَل عن عيوب الناس وأمْسَك لِسَانه عن تَتَبّع أحوالهم التي لا يُحِبّون إظهارها سلم دِينه وعِرضه، وألْقَى الله محبته في قلوب العباد، وسَتر الله عَورته، فإن الجزاء من جنس العمل، وما رَبّك بِظلاّم للعَبيد.
(الفواكه الشهية في الخطب المنبرية).
وعقوبة الظلم للعباد معجلة في الدنيا مع عذاب الآخرة، وليس بالضرورة أن تُحسم جميع القضايا هُنا؛ ثمّة مظالم ستستأنف مِن جديد يوم القيامة، وتلك الحقيقة هي أشدّ وقعاً من المطارق الحامية على قلوب الظالمين، وعن أبي موسى-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته))، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} متفق عليه، وأکثرُ ما يدخل المُوحِّدين النَّار مظالمُ العباد، فديوان العباد هو الديوان الذي لا يُترك (الدّيوان): دفتر تسجيل الأعمال، فلا ينبغي لأحدٍ أنْ يغترَّ بحِلمِ اللهِ عليه، فقدْ يكونُ ما عليه مِنَ الأمنِ في المعصيةِ والظُّلمِ لِنفسهِ ولغيرِه؛ إنَّما هو استدراجٌ مِنَ اللهِ تعالى له حتَّى إذا سبَقَ الكتابُ أخذَهُ اللهُ بما قدَّمَ مِن عَملٍ، فلايجدُ له مِن دونِه وَلِيًّا ولانَصيراً، وفي هذا الحديثِ يُحذِّرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ التَّمادِي في الظُّلمِ، ويُعْلِمُنا أنَّ اللهَ تعالى يُملي للظَّالمِ، أي:يُمهلُه ويُطيلُ عُمرَه حتَّى إذا أخذَه لم يُفلتْه، أي:
لايتركُه ولايخلِّصُه أبداً لكثرةِ مظالِمه إنْ كان مشركاً، أولم يخلصْه مدَّةً طويلةً إنْ كان مؤمناً، ثُمَّ قرأَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102).
والمعين للظالم كالظالم نفسه في الإثم ويخشى عليه من العقاب العاجل قبل الآجل وأن تدور عليه الدائرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: (من أعان ظالماً بُلي به... وهذا عام في جميع الظلمة من أهل الأقوال والأعمال وأهل البدع والفجور وكل من خالف الكتاب والسنة من خبر أو أمر أو عمل فهو ظالم، فإن الله أرسل رسله ليقوم الناس بالقسط)- الفتاوي 48/ 4
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة- ودعاؤه مستجاب لايُردُّ- لمن تعجَّل في التحلُّل من أخيه كي لا تُؤخذ منه لحقوقهم حسناتُه يوم القيامة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً كَانَتْ لأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أو مَالٍ، فَجَاءَهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، حَمَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ))؛ رواه الترمذي.
وقبل الختام أذكر نفسي وغيري بهذه الرسائل التحذيرية من سيد البشرية وهي موجهة لكل ظالمٍ ومناصر للظلمة:
(من ضَارَّ مُسلِماً ضَار الله بِه)، (ومَن شَاقَّ شَاقَّ الله عَلَيه)، (ومَن خذل مُسلِماً في مَوضِعٍ يجب نُصرَتُهُ فِيهِ خذَلهُ اللَّهُ في مَوضِعٍ يَجِبُ نُصرَتهُ فِيهِ).
وقبل ذلك قول الله تعالى:
{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدا} فكل ظالم وإن نال عزاً في هذه الدنيا وبطش وتمادى فغداً سيذله الله ويقتص منه فالله عدل ولا يرضى بالجور.