متعب بن حمود البازعي
عبارة قرأتها في أحد معاجم العربية فاستفزتني أيما استفزاز، بخصوص كلمة من لغة أمي وأبي وجدي وجدتي في عمق نجد ثم يقال إنها ليست من كلام العرب!. وليتها جاءت عن بحث ودراسة أو تدبر ودراية، بل مجرد نقل ورواية وبصيغة التمريض تكتمل الحكاية. ربما تكون الكلمة التي أثارت الشجون كلمة عابرة وغير ذات شأن لكن المقولة أو القيل هو صاحب الشأن.
كانت مداولات حول (كلمة اليوم) التي يغرد بها (مجمع اللغة الافتراضي) يوميا ضمن جهوده لجمع الفوائت القطعية والفوائت الظنية في مشروع رائد يستحق التقدير والاحترام. فكانت مني ذكريات حول كلمة (القنارة) تلك الخشبات الثلاث المقرونة من أعلاها بحبل ومفرجة من أسفلها والتي تعلق بها أمي صميل اللبن وتخض الحليب الخاثر أو اللبن وتخرج الزبدة ثم نشرب اللبن أو الشنينة بعد إضافة الماء.
أردت أن أقترحها للمداولة فتيممت المعاجم أبحث عنها لأن أول شرط لـ(كلمة اليوم) التي تُطرح للبحث أن تكون غير ممعجمة. بحثت عنها فلم أجد إلا القليل!، وجدت في (التاج) أنه ذكرها وعقب بتلك العبارة التي استفزتني وآلمتني «يقال إنها ليست من كلام العرب». أولا لأنه مجرد نقل ثم هو بصيغة التمريض، ثانيا أن الكلمة ليست خارج نطاق الجذر التي وردت فيه فقليل من النظر والتحليل كاف لمعرفة أنها أحد فرائده ولا شك. وقد تبين لي بعد ذلك أن صاحب التاج نقل العبارة عن (لسان العرب) حيث وردت فيه أصالة. أصحاب المعاجم بذلوا جهدهم واستفرغوه في جمع شتات مفردات لغة العرب ولكن محتوى العربية اللفظي عصي على الجمع. هذه حقيقة يجب أن يقتنع بها الجميع، استقراء قواعد لغة العرب ونظامها ممكن لأنه نوعي ويجري على المنطق أما استقصاء محتواها اللفظي الكمي فيكاد أن يكون مستحيلا. لذلك ما زال تتبع الألفاظ وتحليلها بابه مفتوح وسوقه قائمة وإغلاقه كان خطأ تاريخيا يجب أن يصحح وما زال اللاحق يستدرك على السابق في هذا الباب.
ولا أنسى فضل (مجمع اللغة الافتراضي) وفضل المشرف عليه علي وعلى غيري ممن انخرط في مناقشاته وتداولاته اللغوية اليومية الممتعة. بالنسبة لي كانت مداولاته واحة غّناء طالما بحثت عنها منذ الطفولة!، فقد كانت ألفاظ اللغة غالبا تداعب مخيلتي منذ الصغر وأعشق مداولتها في ذهني ومع غيري. عندما عثرت على حساب المجمع على (تويتر) بالمصادفة كانت فرحة العطشان بواحة ظليلة وماء بارد. عرفت مباشرة أن صاحب هذه الفكرة قد كسر الحواجز وخرج من الصندوق الأكاديمي إلى الهواء الطلق ومن الغل التاريخي الجامد إلى سعة اللغة تاريخا وواقعا. فله منا الشكر والتقدير على خدمة العربية بطريقة إبداعية شكلا ومضمونا بعد جمود دام قرونا طويلة.
وعندما كثر القيل والقال والمماحكات والجدل حول موضوع الفوائت ولهجات (المنبع)، قلت عبارة أرجو أن تكون أصلا في هذا الباب (إن أعظم شاهد يظفر به المعجمي من أهل العراق أن يقول: سمعت بني فلان يقولون كذا وكذا أي من أهل الجزيرة وأقول: (نحن بنو فلان ولا فخر). لقد كانت نجد وما حولها على مر الزمان طاردة بسبب ضيق الحال وشظف العيش ولذلك بقيت لغتها على ما هي عليه منذ مئات السنين.
عودا على بدء، قال في لسان العرب: «والقِنَّارُ والقِنَّارَةُ: الخشبة يُعَلِّقُ عليها القَصَّابُ اللحمَ، ليس من كلام العرب» هكذا جزما. ثم بقليل من التفكير والبحث والتحليل وكثير من الاستفزاز وجدت الكثير حول هذه الكلمة وجذرها، الجذر الثنائي (قن) أو الثلاثي المضعف (قنّ أو قنن) وعرفت أننا أمام إهمال كبير يتعلق بلغتنا وتحليل ألفاظها. خصوصا باستخدام مفتاح واعد جديد لهذا التحليل وهو مفتاح الجذور الثنائية والذي أظنه سيقودنا إلى تحليل حقيقي لألفاظ اللغة العربية، ورد الشارد منها إلى أصله. أرجو أن تكون هذه المقالة مشاركة جادة وباعثة لنظرية الجذور الثنائية الواعدة في مراجعة لغتنا العظيمة لغة العرب ولغة القرآن الكريم، لغة البيان والمرونة.
ولعل الجذر الثنائي - ومفكوكاته وملحقاته - الذي تناولته هذه المقالة بالتحليل هو مثال حي على المقصود. وقد تعجبت ثم ازددت عجبا من أبواب تفتحت أمامي وأنا أتتبع الألفاظ المتعلقة بهذا الجذر ومسارب أقفلتها في النهاية حتى لا تطول بي الحال. وازداد عجبي عندما وجدت ألفاظا مهاجرة عادت إلينا وعربناها من جديد، وبدلا من نسبة بعض كلامنا للعجم وجدت أن الأولى بنا هو نسبة هذه الألفاظ إلى العربية وسبحان مقلب الأحوال والأيام.
وعلى كل فقد قررت أن أسير بلا مدة وأن أعدو بلا عدة فأنا لست متخصصا باللغة العربية وإن كنت مختصا بها. وما أعنيه أنني لست من المتخصصين في اللغة أكاديميا ولكنها من شأني ومن هويتي، فاللغة عادة هي المكون الثالث للهوية بعد العرق والدين. وهي من شأني عملا وهواية واهتماما فعملي تعليمي تربوي أهتم بكيفية تعلم وتعليم اللغة والتنظير في ذلك، وكيف يكون اكتساب اللغة عند الأطفال. كذلك يستهويني كيف نشأت اللغة أو اللغات عند البشر وحركتها عبر التاريخ وكيف تكلم البشر أول مرة. ومن عادتي أنني أتكلم (حول اللغة) وليس (في اللغة) إلا موضوع التصريف فهو ملجأنا وملاذنا لتحليل الألفاظ. وأحب أن أشير هنا أن هذه مجرد مقالة وليست بحثا أو دراسة لعلها أن تفتح بابا للبحث والدراسة والفحص والتمحيص، وأنا هنا جامع ولست بفارز ولعل هذه المقالة مع الزمن أن تتحول إلى ورقة عمل.
أرجو أن تتقبلوا مني هذا الاصطلاح أو هذا التفريق بين مصطلحين، متخصص ومختص. متخصص هو اصطلاح حديث يتعلق بالحصول على الشهادة أو الإجازة في تخصص أكاديمي معين، أما مختص فتعني المهتم بشأن معين والهاوي له والخبير فيه بعيدا عن الأكاديمية الرسمية. وكم أتمنى أن يعاد النظر في هذا الأمر ويُحدَث في الجامعات والمعاهد والأكاديميات العلمية مسار يتعلق بهؤلاء المبدعين خارج الأسوار والذين لا يقبلون التأطير الأكاديمي. يُعترف بعلمهم وعملهم وجهدهم ويعطون التقدير والشهادات - رسمية أو فخرية - على إنجازهم. ولا ننسى أن العلم تقدم عبر التاريخ من خلال هؤلاء المبادرين المستقلين الأحرار من القيود الرسمية والهواة أهل الشغف.
جاء أوان تحليل اللفظ المعني من خلال جذره، لفظ (قنارة) يعود إلى الجذر الثنائي قن أو الثلاثي المضعف قنّ أو قنن وهكذا جاء ذكره في المعاجم، وقد وجدت ما يلي ..
من المهم أن أشير في البداية إلى ظاهرة غريبة للأسف تجلت في معاجمنا العربية وهي ظاهرة إهمال الجذر الأصلي والقفز للمفكوكات، وفي كل مرة نجد أن لهجاتنا المسماة بالعامية تحتفظ به!. وجذرنا الذي هو تحت الدراسة أحدها، فالجذر قنّ الثلاثي الخام غير موجود في معاجمنا!. في عامية نجد قَنّ كفعل يعني ألزم أو ساق الشخص بالقوة أو جره من رقبته أو قفة شعره أو جر الشيء من أعلاه. وهذا المعنى أصيل في مفكوكات هذا الجذر وتفريعاته. يقولون عندنا عن الشخص المطلوب «جابه يقِنّه للقاضي أي ساقه بالقوة» وأقرب مظهر حسي لهذا هو أنه أحضره وهو يسحبه من رقبته، ويقولون «إذا ما التزم أخليهم يقنّونه قنّ» أي يحضرونه بالقوة.
يقول بصري الوضيحي:
التايه اللي جاب بصري يقنه
هيض جروح العود والعود قاضي
وجدت أن الجذر الثنائي قن يتفرع عليه معنيان أصيلان: الأصل الأول يأتي بمعنى التعلق والملازمة، فالقين (العبد) سمي بذلك لتعلقه بقومه وملازمته لهم خصوصا إذا ولد فيهم، والتعلق عادة يكون بشيء عال. وهذا المورد مهم في هذا الجذر وسنجد أنه يتعلق بالرأس تحديدا «وقُنَّةُ كلِّ شيءٍ أَعلاه مثلُ القُلَّة»، لسان العرب. ومنه القنو أو القنوان (القنيان) وهي عذوق التمر المعلقة في فروع النخل، ومنه القناديل وهي المصابيح المعلقة ومنه اقتنى الشيء أي تعلقه وتقلده وأقناه أعطاه وقلده إياه وملكه إياه.
ومنه كلمتنا أو لفظتنا (القنارة) فهي أداة لتعليق الأشياء مثل الصميل أو القربة أو الذبيحة. وهي على وزن من أوزان اسم الآلة فعّالة مثل سنارة ونظارة، وقد أصبح وزنا مقبولا بعد اعتماده من قبل مجمع اللغة في مصر. وهو في الأصل كان وزنا شاذا عند النحاة والشذوذ عند العرب في هذا الباب كثير.
الأصل الثاني هو الاستطالة والامتداد أو الاستقامة والصلابة و»الاقتنان الانتصاب»، لسان العرب. فالقن الجبل الصغير المستقل الممتد المتطاول في الهواء، ومنه القناة أي العصا أو الخشبة ومنه الرمح والقندل والقندويل الرجل طويل الصلب وصلب الظهر. وفي ظني أنه ليس كل عصا يسمى قناة بل العصا الغليظة التي في أعلاها عقدة بهدف الضرب ونسميها شعبيا قناة (تسناة) أو (العجرا). وكذلك العصا المجوفة ومنه الرمح ومعلوم أن الرمح في رأسه أداة حادة قاتلة. ومن أعجب ما عندنا من الألفاظ (قَنوَرَة) مثل قسورة وتعني ضرب الطائر في رأسه عند الصيد أو سقوط الطائر سقوطا حرا مباشرا على رأسه. ومنه القنوت وقنت وهو طول القيام والانتصاب والقنوت أيضا لزوم الطاعة والخضوع وهذا يرجع للمعنى الأول وهو التعلق واللزوم.
وهذا الانتصاب والصلابة يكون رأسيا أو أفقيا، كما هي قناة الماء وحديثا قناة الأذن ومجازا قناة الإعلام. ويلحق به القنطرة من مفكوكات قن وهي الجسر المنحني المعترض على نهر أو هاوية. ومن ذلك الكندرة أو القندرة (القنطرة) أو الجزمة بشكلها الحديث المقوس الذي يشبه القنطرة!.
ومن العجب أن لفظ القنارة مرتبط بالأصل الأول وهو التعلق فهي أداة تعليق، ومرتبط أيضا بالأصل الثاني الخشبة والعصا الغليظة فهي مكونة من خشبات ثلاث أو قني ثلاث. وهناك ارتباط ثالث وهو لفظ القنّور بمعنى الرأس الغليظ أو صاحب الرأس الغليظ، والقنارة عند قرن خشباتها من الأعلى وربطها بالحبال تشبه هذا الوضع. وأظن أن الأمر بالعكس أن صاحب الرأس الكبير أو العمامة الكبيرة سمي قنورا لأن رأسه يشبه أعلى القنارة، وكما سبق أن قنة كل شيء أعلاه.
والآن نأتي على مفكوكاته ولن أستطيع لها إحصاء حتى أني شعرت مع التتبع أن لغتنا العربية يمكن إرجاع ألفاظها غير المحدودة إلى عدد محدود من الجذور الثنائية، لأننا إذا دخلنا عالم المفكوكات فلن ننتهي.
من مفكوكاته تقن وأتقن وتقانة وحديثا تقنية وتقنيات، ويأتي هذا اللفظ بمعنى صنع أو أحسن الصنعة ومنه قينة وقينات صاحبات الغناء وصاحب المهنة!، وربما يكون جاء هذا المعنى من الأول وهو أن هذا الشخص أصبح معلقا بهذا العمل ومتخصصا فيه وملازما له فهو تقن ومتقن. أو أن هذا العمل أصبح متعلقا به على قولهم «من أكثر من شيء عرف به». ومن مفكوكاته يقن وأيقن وتيقن ويقين أي تعلق بهذا الأمر واعتقده وأصبح ملازما له معنى وعقلا.
ومن مفكوكاته قنع أي رضي وطأطأ رأسه وأقنع يقنع أي أرضى وحديثا أقنعه برأيه، والقناع غطاء الرأس وعندنا قَنَعه ضربه بمعقوف أصبع السبابة على رأسه تحديدا. ولعل هذه عكس معنى الارتفاع ولفظ مقنع أي رافع الرأس ولا يستغرب هذا على تطور المعاني في العربية واجتماع الأضداد من مصدر لغوي واحد والمقصود هو أنه أخضعه من أعلاه أي أقنعه. ومن مفكوكاته لقن يلقن يلقّن أي أخذ ولزم وألزم، ومن المفكوكات التي يمكن نسبتها ل قن قنفذ لتكوره ومثله قنبرة (قمبرة وقبرة) لعرف على رأسها وقنبلة أي المصيدة والقنبل عظيم الرأس.
وهنا أشير إلى معضلة في موضوع الجذور الثنائية ربما تكون هي معضلتها الوحيدة وهي أن بعض المفكوكات الثلاثية يحتار الباحث فيها هل هي من هذا الجذر الثنائي أم ذاك. مثلا قََطَن أي سكن المكان هل هي من قطّ أي انقطع إلى هذا المكن وسكن إليه أم من قنّ أي لزم المكان وتملكه، أي هل الحرف الزائد في قطن هو النون في أخره أم الطاء في وسطه. وكذلك قنط هل هي من قن أي لزمه اليأس وتقلده أم قط أي انقطع به الرجاء وأيس منه.
بين اللَّقن واللَّكن، حكاية طويلة عمادها عوج اللسان وضياع الحروف القوية مثل القاف والطاء واستبدالها بحروف أضعف منها وألين مثل الكاف والدال أو التاء، عادة تستبدل القاف إما بالقيف وهو الأكثر أو بالكاف أو بالكشكشة والكسكسة أو حتى بالجيم. وفي حال الجذر المعني هنا (قن) نجد أن كل ألفاظه تقريبا تنطق بالقيف لكنها تكتب بالقاف وهذا لا يغير شيئا. أما الأهم فهو ما ينطق ويكتب بالكاف وهو الانتقال من اللقن إلى اللكن.
جاء في اللسان: لَكَن: اللُّكنَة: عجمة في اللسان وعيّ. يقال: رجل ألكن بيّن اللكن. ابن سيده: الألكن الذي لا يقيم العربية من عجمة في لسانه، لكن لكنا ولكنة ولكونة. ويقال: به لكنة شديدة ولكونة ولكنونة، نعم لكونة شديدة وإلا مجرد اللكن بمعناه الأولي أي قلب القاف كافا فهو موجود بكثرة في لغات العرب القديمة بل أصبح أصلا في كلامهم فتجد اللفظة بعد اللكن أحيانا تحمل معاني إضافية أو جديدة ليست في الأصل.
واللقن هو علامة الفصاحة واللكن علامة العجمة حتى أن كلمة لَقِن أصبحت تدل على الإعراب والفهم والمنطق السليم وعكسها اللكن تدل على العجمة وعوج اللسان، وعلى هذا فإن تقن أتقن لليد ولقن يلقن للسان والقلب. وليس هذا بغريب فإنا مازلنا نسمع المستعربين ينطقون القاف كافا والطاء تاء والعين همزة والحاء هاء والذال زاء والثاء سينا وهكذا... وهو نفسه حال اللغات العروبية القديمة حيث فقدت القاف واستبدلتها بالكاف وسيأتي لهذا تطبيقات واضحة في الكلمات المهاجرة. واللكنة تختص بطريقة الكلام لقوم دون غيرهم خصوصا ما يتعلق بطريقة النطق لحروف وكلمات معينة. هناك مستوى مقبول من اللكن عند العرب خصوصا في القاف والطاء أما العين والحاء فلا، بل إن بعضهم يبدل الهمزة عينا بما يعرف بالعنعنة عكس الأعاجم الذين ينطقون العين همزة لصعوبة نطقها عليهم.
عموما هنا نتكلم عن مستوى عروبي وليس أعجمي وهو الإبدال أي إبدال حرف بحرف وهو يقع في لغات العرب في حروف كثيرة. ومنه هنا قِنّ وكِنّ بيت الدجاج أو وكر الطير ومفكوكه كنيس وكنس وكنيسة أي مأوى، والكن هو مكان الدفء والستر وكنه الشيء سره المكنون والكانون الموقد مكان إشعال النار ومن قن القنينة أي القارورة أو الحاوية الصغيرة المحكمة. وعلى هذا فإن أكنان وأقنان! على معنى واحد وأصبحا أصلين على لسان العرب ولهما أمثال كثيرة وقد جاءت بالقرآن الكريم أكنان قال تعالى:»وجعل لكم من الجبال أكنانا». نجد مثلا أن القرآن الكريم أتى ب طحا ودحا على الوجهين والمعنى واحد لأن العرب تستعملها هكذا، قال تعالى: «والأرض بعد ذلك دحاها» وقال:»والأرض وما طحاها». والطاء عادة تخفف إلى الدال، مثل تمطط تأتي تمدد عند العرب أنفسهم وكما نجده عند الأطفال وعلى التاء عند الأعاجم، فنطق الطاء تاء عجمة أما نطق الطاء دالا ليس كذلك. ويمكننا القول أيضا إن نطق القاف بالقيف ليس عجمة أو لكنة أو لكونة لأن لسان العرب جار عليه، أما نطق القاف بالكسكسة أو الكشكشة فهو لكونة ولكنونة.
وهذا من عجيب مرونة القرآن الكريم في التعامل مع لغات العرب قديمها وحديثها. ومن اطلع على تنوع «القراءات» عرف ما أقصده، فلعلنا نكتسب شيئا من هذه المرونة في التعامل مع لغتنا بعيدا عن الجمود والتحجير. وأعجبها كَنَد أي قطع وكنود أي جحود ولعلها تعود إلى قنط وقنوط، صارت القاف كافا والطاء دالا بعد الإبدال!. عندنا نقول «ما أعطيك ولا قنطة» أي قطعة، وأعجب من ذلك قدّ أي قطع تعود إلى قطّ أي قطع. ومن ذلك الإبدال بين السين والصاد وهو كثير ومنه إبدال الذال بالدال مثل مدكر(متذكر) وادكر(تذكر) في قوله تعالى: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }.
الألفاظ المهاجرة، سبق القول أن اللَّكن هو النزول من الحروف القوية إلى بدائلها وما دونها من الحروف الضعيفة من مشابهاتها والمقاربة لها في المخارج عند الأعاجم. وحتى تعرف الكلمات العربية المهاجرة إلى اللغات الأخرى حاول إعادة الحروف القوية إليها، مثلا القاف والطاء بدلا من الكاف والتاء أو العين والحاء بدلا من الهمزة والهاء. وقد وجدت العديد من الألفاظ المهاجرة عربت وعادت إلينا أي إلى أصلها ولغتها الأم تتعلق بهذا الجذر، تعجبت من كثرتها في جذر واحد. ولعل هذا يستوقف الباحثين والدارسين اللغويين وكذلك المترجمين ليتأملوا أصل هذه اللغات المشترك وفي ظني أنها العربية القديمة. وكما يقال خير وسيلة للدفاع هو الهجوم وقد آن لنا أن نستعيد ألفاظا غابت وطال غيابها.
وهذا مسرد ببعض هذه الألفاظ المتعلقة بجذرنا هنا (قنّ): ويلاحظ أنها خرجت أولا من اللقن إلى اللكن كما بينته سابقا، أي أنها فقدت قافها وصارت كافا في العربية القديمة وفي لهجاتها السامية أو العروبية قبل أن تهاجر إلى اللغات الأجنبية. وبالتعريب عادت بقافها ولله الحمد، وبعضها ما زال مستعملا بالعربية أو العامية بالكاف.
أولاها كلمة قانون (canon) أو الشريعة والنظام الكنسي من قنّ واشتق منه قنّن أي سن القوانين وألزم بها، واللفظ قنّ موجود ومستعمل في نجد وعامة الجزيرة العربية ويعني ألزم وأخضع كما سبق توضيحه. إن ارتباط هذه الكلمة بالكنيسة ونظامها يدل على أن أصل هذه الكلمة شرقي سرياني عروبي ارتحل مع الكنيسة إلى اللغات اللاتينية والأوروبية بشكل عام، وإلا فإن اللفظة الدالة على القانون بمعنى النظام باللغة الإنجليزية مثلا هي (law).
ثانيتها كلمة تقنية (technology) وهي من تقن وأتقن وهي أحد مفكوكات قنّ ومنه تكانة بالكاف عند العامة وتعني الشخص الثقة والجدير بأن يعتمد عليه. لكن للأسف مازال أغلب البلدان العربية يستخدمونها بالتعريب تكنولوجيا وتكنولوجي. ثالثتها كلمة تكنيك (Technique) أي مسار أو آلية أو طريقة أو تقنية أو قناة تؤدي إلى المطلوب، وقنّ الشيء نظامه ومذهبه وهي من الألفاظ المستخدمة في عامية الجزيرة.
رابعتها كلمة قناة (Channel) أو (canal) وهي من قنّ وقناة. خامستها كلمة أيقونة (icon) وهي العلامة البارزة المرتفعة وكانت قديما تعني رموزا دينية في المعابد ولعل منها (الأيكة أو الأيقة) الشجرة الكبيرة التي تتعلق بها قلوب الناس ويعلقون عليها متاعهم التماسا للبركة. سادستها كلمة قنديل وقندل (candle) وتعني شمعة.
سابعتها طاولة الاستقبال (counter) أي القنطرة أو الجسر المقوس أو القناة المرفوعة عما حولها، والقنطار في الأصل الكومة أو الكدس أي القدس المكان المرتفع العالي. وثامنتها قند (candy) الحلوى أو عسل قصب السكر، وكنا نسمعها قند بالعامية بمعنى لذيذ وصل حده من اللذة.
والحاصل أن هذا الجذر الثنائي قن أصل في العربية القديمة وتشعبت منه ألفاظ كثيرة يصعب حصرها في العربية وغيرها من اللغات، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار صورته الثانية بالإبدال وهي (كن). ويشبهه جذر ثنائي آخر وهو قطّ (cut) أي قطع من حيث تحوله إلى اللكن (كَت) أو كثرة تفاريعه.
الخاتمة، وبعد فإني بحثت وتوسعت حتى وجدت هذا الكم من الألفاظ لجذر واحد باستخدام المفتاح (الجذر الثنائي). وهذا ما أدعو إليه وهو العناية بالجذور الثنائية وتحليل ألفاظ اللغة من جديد على ضوئها حتى تعود المتفرقات إلى أصلها والمفكوكات إلى جذورها، بل ورد المهاجر والتائه منها في اللغات الأخرى إلى أصله العروبي.
وأخيرا هل فزعتي لهذه اللفظة ستجعلها تدخل المعجم كفائت قطعي أو على الأقل كفائت ظني، هي محاولة ولعل وعسى. قدرنا أن ننحت في جدار الجمود الذي فرض على العربية ألف سنة أو تزيد، عشرة قرون متوالية بحجة بلا حجة عصور الاحتجاج!، والله من وراء القصد.