لطالما أمتعتنا القصة القصيرة بأساليبها المختلفة، من حيث الإيهام أو التلغيز أو الوضوح، وتفرع مغازيها ورؤاها من حيث التأويل لاستنباط الرسالة، وإن ذهب بعض القراء والكُتاب في القول إن القصة غايتها تكمن في ذاتها، وكيانها الأساسي قائم على جماليتها وأدواتها الفنية التي كُتبت بها، يبقى للكتابة الإبداعية والنوعية أثرها الخاص هذا الأثر الذي نعرفه حين يفرض نفسه علينا، ولا نستطيع وقتها أن نغادر النص بمجرد قراءة واحدة ولا حتى بعد قراءات عدة، فترانا نعود لها مراراً، وتراها تتسع للبحث في جنباتها عن معنى فلسفي أو سؤال أخلاقي أو تبني وعي نوعي.
وإني على الرغم من انجذابي لكل الأساليب القصصية حقيقة، ووقوعي في سحرها بمجرد أن تبلغ من الجمالية والتشويق، وحسن الصياغة مبلغ الإمتاع، إلاّ إنني لا أتوقف ولا أتفكر وأنهل الإلهام الكتابي إلاّ من القصة الفنية ذات البعد الإنساني التي تندمج مع وجدان الناس، وتنفذ إلى قلوبهم، وتتحسس همومهم وصراعاتهم النفسية، وتناقضاتها العصية على الفهم.
يقول الفيلسوف الفرنسي إدغار: (إن الجمال نتاج أساسي للحساسية الإنسانية قبل أن يكون صفة خاصة بالفن)، وقد وجدتُ أن لهذا الجمال نصيباً من حساسية الناقد والكاتب: حامد أحمد الشريف في قصته القصيرة (براد الشاي) المنشورة في الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة بتاريخ 29 رمضان من العام 1441هـ، حيث كان لهذا الإنسان المعجون بالأضداد وجودٌ جماليٌّ ومفجرٌ أخلاقيٌّ في ذات الوقت، تعرى في هذين الضدين على متن نصه، قصة لإعجابي بها ووضوح رؤيتها، في المشهد المختار بعناية، والموقف المتقن بتفاصيله، سيما صياغتها الماتعة، ولغتها الرصينة، قد استمطرت قلمي وكونت لي رأياً تأملياً، فالقصة القصيرة بإمكانها أن تخلق لنفسها حياة تفور دماؤها في شرايين الأدب بحملها لرسالة إنسانية سامية من موقفٍ صغير قد نعبرُ عليه في أطراف الطرقات كمثل هذه القصة الجميلة، أكاد بل أجزم أنها قادرة على أن تمرر نفسها طويلاً بحيث لو قُرئت في أي زمان لن تفقد خطابها الإنساني أبداً.
وحيث نعرف أن الفن لا ينفجر إلاّ بالأحاسيس، وهذه سمة قد رصدها الكاتب بقصد أو جرت على قلمه الذي تمرس الكتابة وعجن قواعدها، فأورد الأحاسيس السيكولوجية للشخصيتين محل القصة، ووحدهما بالحدث الذي تناول بدوره إمتاع القارئ وصفاً، وتشويقه سرداً، في عرض نقيضين متصارعين أزلياً في الذات البشرية، مفهوم السعادة والبؤس وارتباطهما بالفقر والثراء.
وهنا أسدى الكاتب للقارئ رفاهية تقديم الوعي، ولم يقتصر عليه برفاهية التسلية والمتعة فقط، وذلك حين قدم له بسخاء اتساع رقعة البحث عن البُعد الفلسفي وإشعال جذوة السؤال ومبررات الفعل، حين اتكأت رؤية النص على سر السعادة الحقيقية وجوهرها الذي لا يمكن شراؤه بأثمن الأشياء، مما حدا بي استقراء صغير لالتقاطات هذا القلم، وشدة قلقه تجاه روح العصر، وروح الأفعال وردودها، وبؤرة التعقيد الإنساني بالمجمل، والتي لا يمكن أن يُدركها إلا إنسان حكيم واعٍ ولا يقدر على صياغتها إلا كاتب متأمل، يتوقف إزاء ما يمر عليه من أحداث ويدرسها، ويتساءل عن طبيعتها ودوافعها، ثم يضمنها جوهر نصه، نائياً به عن الكتابة الخاطفة المسطحة.
بدأ الكاتب بوصف العجوز وصفاً دقيقاً باختيار موقف شديد البساطة، متعرضاً لتفاصيله من أسمالٍ بالية وأدواتٍ قديمة، وكل ما تشي به الصورة المطلوبة من تفاصيل جعلته ماثلاً في مخيلة القارئ، وأبلغته رسالة في البساطة والتقشف، هذا الرجل العجوز والذي خُيل إليّ أنه رجل على بساطته قد حمل من الصوفية زهدها مظهراً، ومن الحكمة وقارها جوهراً، ومن الحياة غناها قلباً، ضارباً مثالاً عميقاً في خروج الذات عن سجنها المادي الصغير، والتحليق بها نحو فضاء حر يزخر بكل معنىً جميل، وهنا تحضرني إشارة في وصف العجوز واستمتاعه في عمل بسيط كالشاي مجسداً صورة للسعادة في أصغر عمل، ذكرني بمبدأ الإيكغاي الياباني – والذي قد يكون أدركه هذا العجوز بفطرته – وهو الاستمتاع بأبسط الأشياء الصغيرة قبل فوات الأوان، فهذه الصغائر قادرة على جلب السعادة عند ممارستها تراكمياً، والتي يجهلها من يعول على المحددات العظيمة فقط لتحقيق السعادة.
تجاوز العجوز هذا السؤال الذي أرّق الثري المتعجرف وسلبه راحة باله ولم يُدرك الإجابة، (كيف له أن يكون سعيداً بمثل هذه الأشياء البالية عديمة الفائدة، كيف أمكنه الهروب من مجتمعه الخانق وكسر قيوده) – انتهى الاقتباس، سؤال كهذا قد تكون باعدت بينه وبين العجوز سنوات من التنور الفطري، واستشعار الجمال، وعيش اللحظة، وتثمين الحياة بمعناها الجوهري، كحياة قسمها الخالق على عباده بالعدل ولا وقت هناك في تضييعها في محاولة تحصيل مالم يُدرك بمال أو ثراء، مُجسداً إجابة حضرتني وأنا منفعل ة مع عمق المشهد حيث يقول جبران خليل جبران: (من يأخذ قبضة من الجواهر بدقيقة محبة، من يعطيني عيناً ترى الجمال ويأخذ خزائني )، وكأننا نستقرئ من هذا العجوز والعابر بسيارته الفارهة في تلك الصورة التي رسمها الكاتب أن الثروة تستطيع شراء كل ما هو زينة للحياة، أساسياتها وكمالياتها، ولكنها عاجزة عن شراء ضرورة واحدة من ضروريات الروح.
ثم يأتينا الجواب من الطرف المقابل من قبل الثري الذي أطال المراقبة ومحاولة استشفاف سر ما يفقده، فيوقف سيارته عازماً أن يرتشف من نهر السعادة التي رأى عليها حال العجوز، مستمعاً لصوت فطرته التواقة للنور مهما كان عليه من تعجرف، منغمراً للحظات في بحر الإنسان الفسيح الذي تسبح به جميع الطبقات، فيقول الكاتب: (حاول أن يكون مقداماً جسوراً، يوقف مركبته الفارهة قريباً منه ويقدمُ عليه يرتشف معه من هذه السعادة) انتهى الاقتباس، وحين يمد الرجل العجوز يده مرحباً من البعد، فإذا به يخالف صوته، وينزاحُ عن رغبتهِ الأولى، ويركل براد الشاي ركلة مدوية سددتها قدم الحنق، ركلةٌ صدرت من غلبة الكبر، واستكثار النعمة ـ وإن كانت صغيرة ـ على الغير، وكم كانت هذه الخاتمة مدوية اتسمت بالمفاجأة والوصف الدقيق الذي أظهر جوانب الذات المسممة بعمق متفرد، فيقول: (اقترب منه وعندما ابتسم العجوز في وجهه وأشار بيده مرحباً، ترجلَ من مركبتهِ ممسكاً بطرف ثوبهِ، حتى إذا ما وقف في استقبالهِ تجاوزهُ دون أن يصافحَ يدهُ الممدودة، فقط ركل براد الشاي بحذائهِ اللامع وقفل راجعاً) انتهى الاقتباس.
كم من شقي مشوّه النفس قد رمى سعيداً بكلمةٍ ثقيلة سلبته سعادة لحظته، وأرّقت منامه، ومزقت نفسه، هذه الركلة لم تكن إلا لانعدام الرضى عن حياتهِ، وغلبة الحسد في نفسه، يقول الله تعالى: ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) آية (54) سورة النساء ، فكم ركلة نواجهها من غير جريرةٍ ارتكبناها، أو إثارة منافسة افتعلناها، بل أحياناً نتلقاها من غريبٍ عابر كمثل هذا الثري، وما هذه الركلة إلا في وجه صورتنا الماثلة أمامهم والتي تذكرهم بنقصهم وكبرهم الزائف، وعجزهم عن تحصيل السلام الذاتي مع وجود كل ما يسوغ لهم امتلاكه، تلك ركلة في الختام لم تكن في وجه العجوز وبراده، إنما هي في وجه كل متنور ترفل نفسه بالسلام، كل واعٍ في فكره ومبادئه وقيمه، ماضٍ في طريقه لا يهمه شيء من أمر القافلة إن خالفته المسير، لكنها تظلُ ترميه من البعد بحجر الاختلاف.
وهذه حقيقة برأيي حرص الكاتب على استنطاقها في نصه الأدبي الجميل دالاً ومدللاً على ما قاله ماركيز: (إن الحقيقة هي أفضل شكل أدبي).
**
* طاهرة آل سيف