لفتت انتباهي لحظة صعدت على المركب.
رحلة في النيل العظيم. ثلاثة أيام وسط الماء. بعيدا عن الضوضاء ومتاعب العمل، القلق والروتين اليومي.
وضبت حقيبة مليئة بأكثر ملابسي الصيفية ألوان وبهجة. اقراط مجنونة وقلائد ضخمة..
أردت أن لا أكون أنا
أردت الخروج من شكلي وحجمي ونظامي وكل ما يشبهني.
أردت أن أغير عيوني. وأن امتلك صوتا آخر أذنين مختلفتين وفما لا يعرف سوى الابتسام والضحك.
أردت أن أرقص أن أغني أن أسبح. واستلقي في الشمس بينما الطيور والفراشات تنقر اللوز والسكر والكرز عني..
ثم رأيتها
لوحدها على غير عادة الجميع
الكل في مجموعات عائلية أو عروسين إما في شهر العسل أو يجددا شعلة حبهما.
وهي تنفرد بذاتها. لديها طريقة في احتضان ذراعها وهي تستند على حافة سور المركب. وكأنها تطبطب على نفسها.
في منتصف الثلاثين ربما
سمراء، نحيلة بقوام متماسك. شعر أسود لامع غير مرتب يصل لكتفها.
ملامح حزينة و رقة متناهية في حركتها
لم أستطع إلا أن أتابعها. عشقتها عيناي
تخيلت صوتها رائحتها صحوها نومها عملها
ماذا تحب من الأغاني والأفلام والألوان والشعراء والفنانين..
تخيلت اسمها بيتها حديقتها فنجانها وكأسها شرفتها والركن الذي تشرب فيه قهوتها
تخيلت أنني أقرب صديقاتها وصندوق أسرارها
وأنها توسدت كتفي ذات نهار وحكت لي قصتها بينما تكتم دموعها لأنها تعرف أنني أكره البكاء
منذ دخولي لقاعة الفطور صباحا أبحث عنها. لعلها تناولته باكرا. أو استغرقت في النوم..
أخرج أتفحص الممرات. القاعات الضخمة. أتنقل بعيني بين المقاعد المخملية الحمراء.. وتلك الخشبية الدائرية العالية. تعانق برشاقة منصة البار.
أصعد للروف حيث جلسات خشبية بيضاء ومقاعد طويلة عليها فوط مقلمة بالأبيض والأزرق أو الأصفر.
ربما ستنزل المسبح اليوم..
أضع نظارتي الشمسية وأنزع قبعتي القش الكبيرة بورودها الحمراء والبيضاء.
ليست هناك
تخيلتها ترتدي مايوه أحمر فاقع يعكس سمرتها الجميلة وجسدها يقطر ماء. وهي تسرح شعرها للخلف. تستند على حافة المسبح وتشرب عصير ليمون مثلج.
تبتسم لي. فأدنو منها وكأنني كنت أنتظر تلك اللحظة عمري كله. أضع كريم الشمس على ظهرها وأتلاعب به. كأنني أرسم على كانفاس.
لكنها ليست هنا
تخيلت ما الذي يحزنها لهذه الدرجة. ولماذا هي في رحلة نيلية صيفية في إجازة عيد!
من كسر قلبها ومزق روحها. من ضمها إليه وهي ثمرة شهية ضاحكة يانعة ثم نفضها عنه ورماها بعيدا. فجفت روحها ويبس قلبها.
تخيلتها وحدها في غرفتها ليلا. تتأمل النيل يتلألأ تحت شعاع القمر. مع وشوشة تدافع الموج والمراكب الشراعية ونداء الصيادين وصدى أغانيهم لجلب السمك والرزق.
تخيلتها تفلت ضحكة.. ثم غصة
وهي تراقب مراكب تعج بالفرح والزغاريد والاحتفالات والتصفيق و الأغاني الفاتنة.
تبتعد بتكاسل وترتمي على سريرها
تنزع عنها ثوبها الشفاف تثبت وسادة خلفها وتقلب محطات التلفزيون وهي تتلاعب بخصلات شعرها. تحرك ساقيها يمنة ويسرة. تستقر على فيلم قديم لتوم كروز وجهه الطفولي المدور. ضحكته العذبة وعيناه تزدادان زرقة.
تغيب..
لم تعد في الغرفة
لم تعد في المركب
لم تعد وحيدة
لم تعد حزينة.
**
* عالية شعيب - كاتبة وفنانة تشكيلية من الكويت