د. عيد بن مسعود الجهني
الحديث عن استراتيجية بحجم الرؤية 2020- 2030، ليس بالأمر الهين، هذا لأن وجودها على أرض الواقع، يمثل استشرافاً للمستقبل، طموحاً قابلاً للتحقيق على المدى المتوسط أو البعيد.
والقيادة الصالحة هي التي تتبنى (بقوة) الرؤية، وتسعى حثيثاً، تخطو بخطوات ضمن قرارات جريئة تجعل البلاد والعباد في مصاف الدول والشعوب المتقدمة لصناعة تاريخ جديد لمستقبل مشرق واعد بعناية الله، لتهيئة المناخ السليم والبيئة المناسبة التي تحقق الأهداف العريضة من خلال نظرة ثاقبة للمستقبل، تحقق أهداف الرؤية، مستغلة كل العوامل التي تتمتع بها بلاد الحرمين الشريفين، من سياسية، واقتصادية، ومركز استراتيجي فريد بين قارات ثلاث، ناهيك عن قوة نفطية دافقة، ومناخ سياسي مستقر، وقدرة الشعب بقيادته على التفوق والإبداع في ميادين عديدة.
وقبل أن ندخل في محاور تلك الرؤية الطموحة أو (الحلم الكبير)، لا بد وأن نمهد لذلك بكيف كنا وكيف أصبحنا دولةً فاعلةً ذات تأثير كبير على المستوى المحلي والإقليمي والعربي والإسلامي والدولي.
فالجزيرة العربية قبل تأسيس أول وحدة عربية حقيقية (المملكة العربية السعودية) على يد المؤسس والموحد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -رحمه الله- عام 1351هـ، كانت غارقة في سيل من التفكك السياسي، ولم يكن هناك كيان سياسي يوحد السكان، في ظل صراع القبائل بعضها مع بعض، والذي كان سائداً في الجزيرة العربية، وقد وصف ابن خلدون الأوضاع السياسية في المجتمعات القبلية عند العرب قائلاً: (فهم متنافسون في الرئاسة، وقلّ أن يسلم أحدهم الأمر لغيره).
أما الحجاج والمعتمرون والزوار فقد كانوا في طريقهم الطويل لأداء الحج والعمرة، يمرون بعقبات لا نهاية لها، تحفّها الكثير من الصعوبات والمخاطر والتحديات الجسام، فحالة الأمن في المشاعر المقدسة والطرق المؤدية إليها كانت معدومة، وقد بلغ الأمر مرحلة أنّ سكان أي حي بمكة المكرمة، كان ليس باستطاعتهم التنقل من حي إلى آخر إلا بشكل جماعي.
أما الاقتصاد فحدّث ولا حرج، فقد كان اقتصاداً بدائياً، يعتمد على الرعي والزراعة والحرف البدائية، وما ينتجه أهل البادية، يأتون به إلى الحاضرة.. وهكذا دواليك.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، سكان جدة ومكة المكرمة، كانوا يعتمدون في جلب رزقهم على ما يحصلون عليه مقابل خدماتهم للحجاج والمعتمرين على قلتهم، ومنها خدمات النقل والإرشاد والإسكان، وتوفير المواد الغذائية التي يحتاج إليها الحجاج والمعتمرون.
وفي المناطق الساحلية على البحر الأحمر والخليج العربي، كان صيد الأسماك والتجارة البحرية على بدائيتها هي المورد الرئيس للدخل الرئيسي.
وفي المنطقة الوسطى كانت الزراعة البدائية مورد الدخل الرئيسي، فكانت الآبار الجوفية مصدراً للمياه، وما ينتج كان يستهلك.
وفي المناطق الجنوبية، كانت الأمطار وسيلة أهل تلك المناطق في الزراعة التي كان نموها أكثر نظراً للطبيعة الممطرة في تلك المناطق.
أما عن النشاط التجاري بين مختلف المناطق، فمع وجود النزاعات والخلافات القبلية، فقد كان حجمه ضيقاً جداً، مما جعل تعريف الاقتصاد والتبادل التجاري في تلك المرحلة من التاريخ، بأنه (بدائي)، حقيقة واقعة.
وكان المؤسس والموحد الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، قد خاض بطولات ومعارك جسام على مدى ثلاثة عقود، لتوحيد البلاد، بدأ بنجاح معركة استرداد الرياض العاصمة في الخامس من شهر شوال 1319هـ، ويعد ذلك أكبر وأهم حدث في تاريخ الجزيرة العربية.
إنها إرادة الله التي هي فوق كل إرادة، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} الحج 40.
يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود:
(لقد كان استرداد الملك عبدالعزيز للرياض في الخامس من شهر شوال عام 1319هـ/ 1902م، اللبنة الأولى في تأسيس المملكة العربية السعودية، في حين تعود جذور هذا التأسيس إلى مئتين واثنين وستين عاماً، عندما تم اللقاء التاريخي بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- عام 1157هـ/ 1744م، فقامت بذلك الدولة السعودية الأولى على أساس الالتزام بمبادئ العقيدة الإسلامية، ثم جاءت الدولة السعودية الثانية التي سارت على الأسس والمبادئ ذاتها).
وقد توالت بعد ذلك الفتوحات لأكثر من ثلاثين عاماً، ليعلن الملك عبدالعزيز توحيد البلاد باسم (المملكة العربية السعودية) عام 1351هـ.
وبعد أن اكتمل مشروع الملك عبدالعزيز السياسي والمجتمعي والجغرافي ووحد بلاده، بدأ مشروعه الاقتصادي وفي مقدمته النفط، فبعد أن اكتشف النفط في الجارة العراق 1927، ثم في الجارة البحرين عام 1932، بدأ الملك عبدالعزيز في عقد اتفاقية للتنقيب والاستكشاف عن النفط مع شركة (Eastern and General Syndicater) لكن العقد الذي بدأ عام 1922 انتهى مع تلك الشركة عام 1928، لعدم قدرتها على دفع الإيجار الذي تعهدت به وقدره (2000) جنيه سنوياً.
ورغم فشل الاتفاق مع شركة (Eastern and General Syndicater)، إلا أن الملك عبدالعزيز لم يترك مشروعه الحضاري، وإنما فتح الباب أمام المستثمرين الآخرين.
هنا بدأ التنافس والصراع بين الشركات الأمريكية والبريطانية على التنقيب عن النفط في المملكة، ودام صراع التنافس فترة قصيرة، انتهى باختيار الملك عبدالعزيز للشركة الأمريكية «Standard oil of California (سوكال)».
وقد كان اجتماع لندن بتاريخ 13 يناير 1933 بين توتشل مهندس التعدين وهاملتون ولمباردي نقطة مهمة على طريق عقد اتفاقية النفط بين المملكة وشركة Standard oil of California (سوكال).
وبعد الاستماع لمواد اتفاقية جدة التاريخية الـ(37) التي قرئت جهراً في اجتماع المجلس الاستشاري في مكة المكرمة، وجّه الملك عبدالعزيز وزير المالية -آنذاك- الشيخ عبدالله السليمان بالتوقيع على الاتفاقية، قائلاً: (توكل على الله ووقع).
وبعد التوقيع على الاتفاقية كوّنت «سوكال» شركة خاصة للتنقيب، عرفت باسم شركة Standard oil of California (كاسوك)، وفي عام 1936م انضمت شركة تكساس للبترول Texas oil (تكساكو حالياً) إلى الاتفاقية، وحصلت على نصف ملكية كاسوك، وفي 31 يناير عام 1944، استبدل اسم (كاسوك) إلى شركة البترول العربية الأمريكية Arabian American والمعروفة باسم (أرامكو) Aramco التي هي اليوم مملوكة بالكامل للمملكة العربية السعودية باسم (أرامكو السعودية).
واستمر التنقيب الجيولوجي في المنطقة، وبعد أشهر قليلة حولت (سوكال) الامتياز إلى شركة Standard oil of California (كاسوك) CASOC.
وفي أغسطس عام 1935م، ومع الاقتراب من عمق الطبقات الحاملة للزيت في البحرين (نحو 610) أمتار، بدأ الزيت بالظهور في بئر الدمام، وقد كانت كافية لإثبات أن النفط موجود، وفي شهر سبتمبر من نفس العام، وعلى عمق 590 متراً تقريباً تدفق النفط بمعدل يقارب 100 برميل في اليوم.
وفي 4 مارس 1938م، وصلت إلى مقر الشركة برقية عاجلة، تعلن أن البئر رقم (7) بدأ إنتاج النفط فيها بكميات تجارية، فعمّت الفرحة الجميع، وناموا في سان فرانسيسكو وفي حقول البترول تلفهم السعادة، وعلى الفور أعلنت سوكا أن بئر الدمام رقم 7 ينتج 1938 برميلاً في اليوم على عمق واحد ونصف كيلومتر تقريباً، وقد استمرت عمليات الاختبار إلى أن أصبحت البئر تنتج ما يزيد على 100000 برميل في اليوم، وخلال مدة قصير تم تعميق البئر (2) و(4) إلى المستوى نفسه، واكتشف الزيت فيهما أيضاً.
وفي 16 أكتوبر 1938م أعلنت كاسوك للحكومة السعودية رسمياً، أنها بدأت الإنتاج التجاري من النفط السعودي الذي طال انتظاره.
ومنذ ذلك التاريخ تغيّر وجه الاقتصاد السعودي عاماً بعد آخر، واستغلت الدولة إيرادات النفط في مشاريع عديدة في جميع مدن ومحافظات وقرى البلاد، وشملت التعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، والبنية الأساسية، والاتصالات، والمواصلات، والنقل، والقطارات، والمطارات، والمعاهد، والمدارس، والجامعات، وعمّ خير البلاد من نعمة النفط الدول العربية والإسلامية والصديقة، مستقبلة المملكة العمالة بجميع أنواعها، لدعم عملية التنمية المستدامة، ضمن تسع خطط تنموية، انتهت عام 2015م.
وجاء الوقت المناسب لأن تكون للدولة رؤية أكثر وضوحاً، لنقل الاقتصاد والاستثمارات إلى العالمية، وفتح أبواب البلاد مشرعة للحجاج، والمعتمرين، والزائرين، والسائحين، والرياضة في كل مناحيها، لتصبح من ضمن المشاريع العملاقة التي تحتضنها الرؤية.
والله ولي التوفيق.
**
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة