د.شريف بن محمد الأتربي
كلمات عدة تشنف أذاننا يومياً صباحاً ومساءً، بعضها لا يكاد يتجاوز حدود طبلة الأذن ولا يلقي له العقل بالاً، وبعضها يهز طبلة الأذن هزاً خفيفاً ويناوش العقل في الوقوف عند الكلمة ولو لثواني معدودة، أو تركها لمرة أخرى قد تتفق فيه مع طبلة الأذن على زيارتها، وهناك كلمات تضرب طبلة الأذن ضرباً وقرعاً حتى تكاد تئن منها فترسلها سريعاً للعقل حتى يخفف عنها ويستضيفها في مركز التدبر والتفسير قبل اعتمادها ككلمة تستخدم في محفل الحوار سواء الشخصي أو العملي.
ومن الكلمات التي زات طبلة أذني على مدار سنوات عدة وكانت لا تتجاوز المرور، ثم أصبحت زائرة متكررة، ولكنها لم تشتبك مع طبلتي في عراك إلا منذ سويعات قليلة حين بدأت أفسر معناها خارج إطارها، كلمة الملاءة.
لقد ارتبطت كلمة الملاءة طوال عهد زيارتها لطبلة أذني بكلمة أخرى هي المالية ليصبح المصطلح: الملاءة المالية، وحيث إنني لست من أصحاب الشركات ولا المهتمين بالأموال سوى بقدر الحاجة، فلم أكن أهتم بها كثيراً ولم أحاول استضافتها في عقلي البشري، أو بمعنى أدق في الجانب المادي منه.
بالأمس القريب، وحين كنت أمارس رياضة المشي، استرقت كلمة الملاءة سمعي وتسللت إلى عقلي وشغلته حتى فصلتني عمن حولي وبدا لهم أني هائمٌ في الأرض، أو مشردٌ بلا مأوى، أهذي بكلمات عن هذه الكلمة كأني وصلت لحل كل مشكلات العالم، وهي فعلاً كذلك.
بادئ ذي بدء، تشير كلمة الملاءة كاسم إلى: ما يُفرَشُ على السرير، غِطَاؤُهُ، وكمصطلح إلى: أن يملك الشخص من المال ما يسع ديونه، وقد ارتبط مصطلح الملاءة بالمالية، فأصبح يدل على: الملاءة في التمويل أو الأعمال، وهي الدرجة التي تغطي بها الأصول الحالية لفرد أو كيان الالتزامات الحالية لذلك الفرد أو الكيان. ويمكن وصف الملاءة أيضاً على أنها قدرة الشركة على تلبية نفقاتها الثابتة طويلة الأجل وتحقيق التوسع والنمو على المدى الطويل.
وعلى عكس كل التوجهات المالية، وفي ساعة صفاء نفسي مع نفسي، جاءتني الملاءة حزينة ومضطربة، تشكو لي الهم من كثرة ما عانت من البشر، أشفقت عليها وأجلستها في صدر مجلس عقلي لتفضفض عما يجيش به صدرها، قالت ودموعها تنساب على خد الحقيقة الغائبة عنا جميعاً: سيدي العزيز العالم كله يغلي ويفور ويضطرب بسبب الملاءة. تغيرت تعابير وجهي وأصابتني الدهشة، ولكنها لم تعطني الفرصة فأكملت قائلة: الحروب بين الدول تقوم فجأة وللأسف لا تجد دولة تدرس ملاءتها العسكرية للدفاع عن نفسها، ولا تحكم صوت العقل، ولا تلجأ إلى الحكماء قبل الاندفاع في صراع يأكل الأخضر واليابس. هذه واحدة من الأضرار التي أتواجد فيها، وغيرها كثير جداً، تخيل يا سيدي أنك تذهب لخطبة بنت أو زواج وأنت لا تملك الملاءات التالية: العاطفية لتجعل لها جزءاً منها، ولا الوقتية فتخصصه لها، ولا المالية فتلبي طلباتها العادية، أو أنك تلتحق بعمل ما وأنت لست على ملاءة بما يتطلبه العمل من معارف وخبرات ومهارات، ورغم ذلك تصر إصراراً غريباً على أن تلتحق به، وحين تفشل لا تنسب الفشل لنفسك، ولكنك تقرنه بي أنا كملاءة. ومع الأصدقاء والأهل تتعدد الملاءات، ملاءة التواصل، ملاءة الوقوف بالجوار، ملاءة الود، ملاءة... إلخ من بناتي وأبنائي الذين يرتبطون بكل علاقات وأحداث العالم. يا سيدي أنا مظلومة في هذا العالم ولو كان بيدي لتركته لكم أيها البشر لتعيثوا فيه كما تشاؤون دوني، وفي نهاية المطاف ستعرفون قيمتي وستندمون على رحيلي عنكم.
طيبت خاطرها وحين أردت أن أبرر لها بعض هذه المواقف تلاشت من عقلي وكأنها ترفض هذه المبررات من كثرة ما سمعتها من غيري وبقيت وحدي أذرف الدمع على كثير من المشكلات التي مرت بي أو بغيري وكنت على اطلاع بها وكان سببها جهل صاحبها بملاءته.