سهوب بغدادي
هل تذكر عندما كنت صغيرًا؟ عندما كنت تتوق لاختبار الأشياء الجديدة والتجارب المثيرة، أو الأبسط من ذلك، عندما كنت تذهب إلى مدينة الملاهي فتقف في «طابور» طويل لفترة طويلة وعيناك على تلك الأفعوانية المتقلبة بجنون، فتغلب الحماسة شعور الخوف وتحرك روح المجازفة جوارحك نحو أبواب «قطار الموت» من ثم تجلس في «الشواية» ورجلاك تتدليان وتتأرجحان بكل متعة انتظارًا للانقلابة الكبيرة، وعلى الضفة الأخرى يرابط أخوتك الكبار أو والديك وهم يكبرون ويهللون ويستغفرون لطلب لطف الله بك، فشتان بين مشاعر من على الضفتين، فذلك اليافع فرح متحمس وتلك الأم متأهبة ومشفقة خائفة على ابنها من مجازفاته وليدة اللحظة، إن مدينة الملاهي تمثيل جيد ورمز لدورة الحياة، فالمتعة والإحساس بالحياة لدى صغير السن تكمن في تجربة الجديد والمجازفة والإثارة، أما بالنسبة للبالغين فالإحساس بالحياة تكمن في السلامة منها والنجاة من دهاليزها الخفية، إذ يتجنب البالغ مواطن عدم الارتياح، والذبذبة، والقلق بجميع أنواعه فيكتفي بكوب قهوة أو عصرية هادئة في المنزل، ونستفيد من رمزية الملاهي أن الإنسان يتبدل ويتحور ولا نستطيع الجزم أن الاختلاف الحاصل له للأفضل أم الأسوأ، إنه ببساطة اختلاف فقط لا غير، ففي بعض الأحيان تختلف الآية وتتبدل من إنسان حذر ومتردد في الصغر إلى مقدام أو متهور وما إلى ذلك عند الكبر، والشاهد في الموضوع، إن كل مرحلة في حياتك تأتي بحزمة من المشاعر والصفات فما أجمل أن تعرفها وتعي وجودها بهدف توظيفها في اتخاذ القرارات والمسارات لصالح حاضرك ومستقبلك، وأذكر لكم أبسط مثال على ذلك، إن الشخص الذي يتخذ قرار الزواج في العشرينات من العمر يختلف عن الذي يتخذ ذات القرار في الثلاثينات والأربعينات، فمن في العشرينات لن يفكر ويحسبها «بالملي» فيكون الاندفاع والحماسة غطاء ذلك القرار، وقد يكفي الشخص في هذه المرحلة أن يقع في الحب لكي يغير حياته بأكملها أو أن يتخلى عن روتينه ومسكنه أو بلد إقامته «الغربة» لأجل هذا القرار، فهل ذلك خاطئ؟ ليس بالضرورة، فبعض الإقدام مهم لكي يحصل الشخص على أمر ما، وليغير حياته، فكل تجربة مفيدة وتغير من الشخص وتنعكس عليه إما بالسعادة في حال نجاح الزواج والإنجاب وتكوين أسرة، أو بالتعلم مما حدث، فيعرف الشخص نفسه أولًا ما يحب وما يبغض، ومن يتوافق معه ومع تفكيره وتوجهاته المستقبلية، ولا أقول قولي هذا لتسطيح القرارات خاصةالزواج أو الانفصال -حماكم الله- ولكن لجعل الحياة أقل تعقيدًا وللحد من جلد الذات والندم والحسرة على ما مضى.
إن الأجمل من كل ذلك هو في معرفة الوقت المناسب الذي تركب فيه أو تنزل من الأفعوانية في أي مرحلة كانت من حياتك، وأن تجمع بين حس الإقدام والتوازن والاتزان في آن واحد.