د. عبد المحسن بن طما
بعد أن أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة إلى المدينة، خرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من غار ثور ليلاً، وكان عامر بن فهيرة والدليل عبد الله بن أريقط الدائلي الكناني ينتظرانهما أسفل الجبل، فاتجه بهم الدليل جنوبًا ثم غربًا باتجاه الساحل، وفي الظهيرة استظل النبي صلى الله عليه وسلم في ظل صخرة، وحلب لهم راعي الغنم.
ولأن الغميم شرق جبال الخشاش فقد سار الركب الشريف شمالًا باتجاه جبال سراوع والخشاش فتركوا جبال الخشاش غربًا، وتلك الديار هي منازل حلفاء جده عبد المطلب وكان خط سير الهجرة يمر بديارهم مبتعدًا عن ديار كنانة، وفي الغميم التقى النبي صلى الله عليه وسلم ببريدة بن الحصيب الأسلمي ورهطه ليلاً، «فأسلم هو ومن معه، وكانوا زهاء ثمانين بيتًا فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء فصلوا خلفه ثم رجع بريدة إلى بلاد قومه، وقد تعلم شيئًا من القرآن». الاستيعاب: رقم (217).
ثم واصل الركب الشريف السير وتركوا عسفان يمينًا وأخذوا يسرة إلى الغرب من عسفان ثم واصلوا السير شمالًا واجتازوا أسفل عسفان ثم اجتازوا أسفل أمج حتى وصلوا قديدًا فنزلوا في ضيافة أم معبد (امرأة من بني عمرو الخزاعية)، وهي لا تعرفه، وكان في خيمتها شاة خلفها الجهد. فقال صلى الله عليه وسلم: (أتأذنين أن أحلبها قالت بأبي أنت وأمي نعم إن رأيت بها حلباً فاحلبها فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى الله عز وجل ودعا الله في شأنها فتفاجت عليه ودرت واجترت ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم... فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافاً يتساوكن هزالاً مخهن قليل فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال من أين هذا اللبن يا أم معبد والشاة عازب حيال ولا حلوبة في البيت قالت لا والله إلا إنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال صفيه لي يا أم معبد... الحديث. (مجمع الزوائد، 6 - 56).
ثم استمروا في السير وأخذوا ناحية الغرب قليلًا وهناك لحق بهم سراقة بن مالك الكناني، (انظر خبر سراقة ابن مالك في السيرة) ، وواصلوا المسير وأخذوا يمنة الطريق تاركين الجحفة غربًا وهناك منازل عبد الله بن حجر الأسلمي، وفي الحديث: (مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، وهما متوجّهان إلى المدينة «بفخذوات» بين الجحفة وهرشى وهما على جمل، فحملهما على فحل إبله، وبعث معهما غلاماً يقال له مسعود، فقال له: اسلك بهما حيث تعلم من مخارم الطريق، ولا تفارقهما... فذكر الحديث، (الإصابة ص304)، فاستبطنوا الخرار وعبروا ثنية المرة فالدمجاء ثم وادي أحياء ثم قطعوا وادي النخل (أسف وادي الفرع) ثم أخذ بهم الدليل مدلجة لقف ثم تبطن بهم مدلجة مجاح ثم اجتازوا وادي مجاح وتبطنوا شعباً يقال له مرجح، ثم اجتاز العصوين وتبطنوا ذي كشد وتسمى اليوم أم كشد وأخذوا الطريق على الجداجد ثم الأجرد وهو قليل الأشجار ويقال له اليوم الأجيرد، ثم تبطنوا ذي سلم فمدلجة تعمّن ثم اجتاز بهم وادي تعهن ثم استقبل بهم الغثريانة شمالًا فالعبابيد فتلعة الفاجَة ثم تبطن بهم وادي القاحة ولما وصل إلى شمالها الشرقي فصعد بهم الدليل مع ركوبة وقد التقى هناك بذي البجادين المزني ثم واصل الركب الشريف المسير فجعلوا الغائر يسارًا، واستبطنوا وادي رئم ولحق بهم هناك أبو معبد فبايع ورجع ثم أخذ بهم الدليل الجثجائة (أبار الماشي) ولما أقبلوا على مشارف قباء أخذ بهم الدليل طريق الظبي وترك جبل عير يسارًا. وجاء النبي صلى الله عليه وسلم قباءً من علوها ويمينها، فهو يحب العلو واليمن، وكان وصوله له إلى قباء في ضحى يوم الاثنين واستقبله أهلها وقد قدم له كلثوم بن الهدم العوفي قنواً فيه رطب منصف وزهو من مزرعة أم جرذان ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم بدار كلثوم بن الهدم العوفي الأوسي شيخ الأنصار خمسة أيام وأسس مسجد قباء، وحين تواجده في قباء رتب صلى الله عليه وسلم أمر الدخول إلى المدينة فاستدعى نقيب نقباء بيعة العقبة ثم أرسل صلى الله عليه وسلم إلى أخواله بني النجار فجاؤوا متقلدي السيوف، وعن أنس قال: (... كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله، (مسلم 2 - 65)، وفي ضحى يوم الجمعة واصل صلى الله عليه وسلم المسير إلى المدينة وصلى إلى منازل ببني سالم بن عوف الخزرجية صلى بهم أول جمعة في الإسلام بالمدينة، ودعاه عتان بن مالك السالمي الخزرجي وقومه للنزول عندهم، وهو يقول «خلوا سبيلها فإنها مأمورة». ثم مر بدور بقية الخزرج (بني الحبلى وبني بياضة والساعدي وبني الحارث وبني النجار). وقد كان كل ما مر بدار من دور الأوس والخزرج (الأنصار) رحب به أهلها ودعوه للنزول عندهم وهو يتبسم، ويقول: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة». وواصل المسير حتى بركت ناقته في المكان الذي أنشأ فيه مسجده، وقد حرص بنو سلمة أن يمر النبي صلى الله عليه وسلم بدارهم لكن الناقة لم تفعل، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وقال: «هنا المنزل إن شاء الله». وجاء أبو أيوب والقوم يكلمونه في النزول عليهم فأخذ رحله، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رحله وقد حُط، فقال: (المرء مع رحله)، فنزل في دار أبي أيوب خالد بن كليب النجاري الخزرجي. وبكذا انتهت أحداث أعظم رحلة في التاريخ وقد اتخذ الخليفة عمر بن الخطاب فيما بعد من هذا اليوم بداية للتاريخ الهجري.