الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
في ظل المتغيرات الحديثة المتسارعة في المجتمعات، ومع التطور المتزايد السريع في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت الفتاوى الغريبة من قبل بعض المتعالمين، وأصبحنا نطلع بين الفينة والأخرى فتاوى (شاذة) من غير المتخصصين تحت بند (الاجتهاد)؛ مما يدعونا نطرح التساؤل المشروع، هل باب الاجتهاد مفتوح لأي شخص، وقد التقينا باثنين من أصحاب الفضيلة المختصين في الفتوى، ورؤيتهم في ذلك، وكانت إجاباتهم على النحو التالي:
مهمة جليلة
يؤكد الدكتور عبدالله بن محمد الطيار مفوض الإفتاء بمنطقة القصيم أن الفتوى في دين الإسلام لها مكانة عالية، ومنزلة عظيمة، ومهمة جليلة، فهي أمر تولاه الله تعالى بنفسه، قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} النساء: (176) وقام بها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تولى هذا المنصب الذي كلفه الله به حيث قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل: (44) ثم علماء الصحابة من بعده، ثم العلماء الربانيون من بعدهم، فهي توقيع عن رب العالمين، فالمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان وقد تولى هذه الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم.
ولعلم السلف رضوان الله عليهم بمكانة الفتوى وأهميتها، كانوا يتدافعونها ويحجمون عنها، ويشددون النكير على من استشرف لها، وسارع فيها، وحرص عليها.
ومن ذلك:قول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: (لقد أدركتُ في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم أحدٌ يُحَدِّثُ بحديثٍ إلا وَدَّ أن أخاه كفاهُ الحديثَ، ولا يُسألُ عن فُتْيَا إلا وَدَّ أن أخَاهُ كَفَاهُ الفُتْيَا) رواه الدارمي (1/ 53) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 163).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون) خرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 164).
وعن مالك رحمه الله أنه ربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول:(من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب فيها) أدب المفتي (1/ 20).
وقد اشترط أهل العلم شروطًا فيمن يتصدر للفتيا كالإسلام والبلوغ والعقل والعدالة وأن يكون أهلًا للاجتهاد، الذي هو بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة.
قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي) انتهى من إعلام الموقعين (1/ 46). وهذا معنى الاجتهاد.ومفهوم هذا الشرط أن فتيا العامي والمقلد الذي يفتي بقول غيره لا تصح.
يعلم من ذلك أن باب الاجتهاد ليس متاحًا لأي حد، بل له ضوابطه وشروطه المعتبرة لدى أهل العلم، التي تؤهل المفتي للنظر في الأدلة والترجيح بين النصوص، بعد العلم بدلالاتها والمراد منها.
دين وقربة
ويوضح الدكتور أحمد بن جزاع الرضيمان مفوض الإفتاء بمنطقة حائل: أن العلم الشرعي دين وقربةٌ إلى الله تعالى، ودين الله ليس محلاً للمشاغبة والتباهي والوجاهة وحب الظهور، ولا محلاً للتراشق والمغالبة وإشاعة غثاثة الشذوذ والغرائب، التي تخالف الكتاب والسنة وقواعد الشريعة ومقاصدها، ولهذا كان السلف الصالح يعظمون قدر علوم الشريعة، فلا يتعلمون للمباهاة، ولا للمجاراة، وكانت طريقتهم أنهم يتعلمون أولاً: الأدب والسمت الحسن، والتواضع، الذي هو رونق العلم، ثم يتعلمون العلم، فتعلموا العلم والعمل والأدب، وفي ذلك يقول ابن سيرين: (كانوا -أي: الصحابة- يتعلمون الهَدْيَ كما يتعلمون العلم) وقال الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله: (طلبت الأدب ثلاثين سنةً، وطلبت العلم عشرين سنةً، وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم)، وقال أيضًا: (نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم).
واليوم دخل العلم الشرعي كثير من غير أهله، فصاروا يتكلمون في العلم بلا علم ويغالطون من هو أعلم منهم، بجهل وظلم، وغلظة وفظاظة، ولا آفة على العلوم وأهلها، أضرّ من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فهم يرومون البروز ولفت الأنظار قبل أن ينضجوا، ولونضجوا لتواضعوا وسلكوا طريقة أهل العلم، الذين يتدافعون الفتوى، كلٌ يود أن أخاه كفاه الفتوى.
لكنهم لم ينضجوا ولم يتلقوا العلم على أيدي العلماء الراسخين، ولم يتأدبوا بآداب طالب العلم، فصاروا يتتبعون المشتبهات، والشذوذات، والغرائب، فأشغلوا أهل العلم بالرد على شذوذاتهم وجهلهم، ولوأنهم إذ لم يسلكوا طريقة الراسخين في العلم، تركوا الكلام في العلم الشرعي، وانشغلوا بدنياهم، لكان خيراً لهم وللعلم وللناس.
ذلك أن من سلك طريقة أهل العلم ورسخت قدمه في العلم، وأعطاه الله عقلا يدرك بها مآلات الأمور، فإنه لا يقع في الأغاليط والشذوذات، قال أبو إسحاق الشاطبي (قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين، إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد، غلطاً، أومغالطة).
وكان السلف يقولون: (من حمل شاذَّ العلم حمل شرًّا كثيرًا).
ولهذا كان من منصوص اعتقاد أهل السنة والجماعة: النهي عن حمل الشاذ، قال الطحاوي 238 - 321هـ في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة (ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة).
وأذكر قديماً أني سمعت رأياً علمياً استحسنه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، فقال هذا قول قوي، لكني لا أقول به لأنني ما اطلعت أن أحدا من الأئمة وأهل العلم قال به.
فالعلماء الراسخون يتوقفون ولا يستعجلون، وأما المتعالمون فيندفعون ولا يبالون، والله المستعان.
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله-: (أدركت بهذا المسجد - يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- عشرين ومائة من أصحاب رسول الله كلهم يُسأَل عن المسألة فيقول: لا أدري)، وقال بعض العلماء: (قل من حرص على الفُتيا، وسابق إليها وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقه واضطرب في أمره، وإن كان كارهاً لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتاويه وجوابه أغلب).
دعوى الاجتهاد
واسترسل د.أحمد الرضيمان قائلاً: يجب أن يُعلَم أنه لا علاقة للاجتهاد الصادر من أهل الاجتهاد الراسخين في العلم، لا علاقة له بما يفعله المتعالمون من تتبع الشذوذات والغرائب تحت دعوى الاجتهاد، لأنهم ليسوا من السائرين على طريقة أهل العلم، فضلاً أن يكونوا من أهل الاجتهاد.
وما نشاهده في الساحة من بعض من ينسب نفسه للعلم من جرأة على الفتوى ليس فقط في مسائل خاصة، بل في مسائل عامة، وقضايا كبرى، تمس علاقات الدول، يتحدث فيها، وهو لا يعلم خلفياتها ولا مآلاتها، فيحدث بذلك شراً وفتنة، وهذا نقص في العقل وجهل في الشرع.
لقد ترك بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - بعض آرائهم الفقهية؛ من أجل اجتماع الكلمة، وأن الخلاف شر وفتنة، بينما المتعالمون يعمدون إلى آراء شاذة، وأقوال مهجورة، فينشرونها، ابتغاء الفتنة، والتصدر، ولفت الأنظار.
السعة والفوضى
ويؤكد د.الرضيمان من أن كثيراً ممن نصّبوا أنفسهم للفتوى، عبر وسائل التواصل وغيرها، لا يفرقون بين سَعَة الشريعة وفوضى القيل والقال، ولا يفرقون بين اختلاف أقوال أهل العلم فيما بينهم، وبين منازعة غيرهم لهم، ولا يفرقون بين مسائل الدين التي تكون بين المرء وربه في عبادته ومعاملته، ليعمل فيها - في خاصة نفسه، وبين الشأن العام وسياسات الدول وما يتخذه ولي الأمر من معاهدات وتنظيمات.
ومن هؤلاء من يناقض نفسه مدعيا خطورة الكلام في القضايا العامة، ودقائق المسائل، وأمور السياسة، لكنه في الواقع يفعل نقيض ما ينهى عنه، فهو داخل في الكلام فيها إلى أخمص قدميه، وأيضاً داخل فيها بجهل وظلم وتعالم.
وما ذكرته من أهمية التفريق بين سعة الشريعة والاحتهاد وفوض القيل والقال جاء التوكيد عليه في البيان الملكي الذي قصر فيه الفتوى على كبار العلماء ومن يفوضهم ولي الأمر، وتضمن أيضا أن النفوس المؤمنة ترسخت مفاهيم مهمة في شأن الفتوى وحدود الشرع الحنيف، وأنه يجب الوقوف عند رسمها؛ تعظيماً لدين الله من الافتئات عليه من كل من حمل آلة تساعد على طلب العلم، لكنها لا تؤهل لاقتحام هذا المركب الصعب، فضلاً عمن لا يملك آلةً ولافهماً؛ ومع هذا يجادل في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإنما هو التطفل على مائدة الشرع، والعجلة - خالي الوفاض - في ميدان تحفه المخاطر والمهالك من كل وجه، كما تضمن:أن تباين أقوال أهل العلم يتعين أن يكون في نطاق هيئاتهم ومجامعهم العلمية والفقهية، ولا يخرج للناس ما يفتنهم في دينهم، ويشككهم في علمائهم، فالنفوس ضعيفة والشبه خطافه، والمغرض يترقب.
هذا في شأن أهل العلم، فما بالك بالمتعالمين الذين يتكلمون بجهل عن أمور لم يُسألوا عنها، ويثيرون غرائب وشذوذات، لانفع فيها، لكنه والعياذ بالله داء حب الشهرة وطيران السمعة في الآفاق.
إن دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية بصفتها مهبط الوحي ومنبع الإسلام ومأرز الإيمان وولاتها هم أنصار دين الله، أولت شأن الفتوى وتنظيمها عناية فائقة، فجعلت مؤسسة رسمية موثوقة للفتوى، وهي الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ويرتبط بها هيئة كبار العلماء وفروع الإفتاء في المناطق، واختارت الدولة وفقها الله أهل العلم الموثوقين ديانة وعلما للفتوى، كل ذلك تسهيلا على المواطنين والمقيمين، ليأخذوا الفتوى من مصادرها الرسمية الموثوقة، إدراكاً منها لخطورة فوضى الفتاوى، والآراء الشاذة، التي تضر ولاتنفع، فكان على الجميع أن يتقوا الله، ولا يتكلموا فيما كُفوا مؤنته.
قال الشيخ بكر أبوزيد رحمه الله: فالحذرَ ياعبدَ اللهِ: أن تبني مجدَكَ وحياتك على العزِّ الكاذب، بنشر الشُّذوذِ والتَّرَخُّص الفاسد سعيًا وراء الحظ الزائل.