يقول الفيلسوف وعالم الاقتصاد الأسكتلندي آدم سميث: «كل أمة تملك القدرة على إنتاج سلعة بتكلفة أقل كثيرًا من باقي الدول، فإذا تبادلنا هذه السلع عمّ الرخاء الكون».. فهل استفاد العالم من نظرية ذلك العالم المتوفى عام 1790م، بعدما سجّل اسمه كأحد أهم رواد الاقتصاد السياسي، ومؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي.
أعتقد أن التضخم الذي يشهده العالم يؤكد عدم استفادته من نظرية سميث الاقتصادية، ما أجج المشكلة عالمياً، منذ ظهور جائحة كورونا، التي دفعت الدول إلى اتباع سياسات دعم سخية للتخفيف عن كاهل مواطنيها، ما فاقم الطلب على السلع الاستهلاكية، وحين عاد العالم لالتقاط أنفاسه بانتهاء الجائحة، تصدرت الحرب الروسية- الأوكرانية المشهد كمحرك جديد للتضخم، فارتفعت أسعار الغذاء والوقود بشكل أسرع من أن يستوعبها اقتصاد أي دولة مهما كان حجمها.
ورغم أننا «لا ناقة لنا ولا جمل» في كبح التضخم العالمي، تضع بلادنا على رأس أولوياتها التخفيف عن كاهل المواطن، وهو ما أكدته العديد من الإحصاءات والمؤشرات، آخرها ما كشفته نتائج استبيان أجراه المركز السعودي لاستطلاعات الرأي، الذي أظهر أن المواطن السعودي متفائل بسيطرة الحكومة على أسعار الوقود والعديد من السلع الرئيسية، ما أدى إلى انحسار التضخم إلى 3 %، ونمو الاقتصاد 9 %. ويرى 60 % ممن شملهم الاستطلاع أن الظروف الدولية المحيطة والتجار والوسطاء مشاركون في التضخم الذي اعتبروه ليس بمشكلة دائمة، أو عصية على الحل، مرجحين عودة الأوضاع لطبيعتها خلال 3 سنوات، مبدبن تفاؤلاً بأن الأيام القادمة ستكون أفضل.
ولأنني أعيش معكم على الأرض ذاتها، أؤيد زيادات الأسعار المنطقية التي تفرضها الضرورة للحفاظ على ثبات ومتانة اقتصادنا الوطني، لارتباطه الوثيق بالاقتصاد العالمي ومجرياته، فارتفاع سعر توفير خدمة ما، لابد أن يرتبط بتكلفتها الفعلية ومكوناتها ومشتقاتها ومصادر تشغيلها.. وللحق، أرى أن الحكومات التي توفر الدعم لكل كبيرة وصغيرة، تخلق مجتمعاً اتكالياً يتخاذل عن المشاركة في عجلة إنتاج ونمو وازدهار بلاده.
وحتى لا أبدو مغالياً، أقر تماماً أني مع زيادة الأسعار المنطقية، غير أني أرى أيضاً أن تعاملاتنا المالية تتأثر سلباً حين ترفع الكيانات التجارية الأسعار بالريال متجاهلة حضور «الهللات» في حساباتها تماماً.
يا جماعة الخير، دعونا نأخذ أمريكا كمثال، فالزيادات هناك تحسب بالسنت باعتباره جزء مئة من الدولار، وبالطبع يلتزم الجميع، فيصبح معدل الزيادة مرتبطاً فعلياً بالتكلفة الحقيقية للمنتج أو الخدمة، وبالتالي لا يؤثر على هامش ربح التاجر، وفي الوقت ذاته لا يثقل كاهل المستهلك.
أما عندنا، فالمشكلة الكبرى أن الهللات التي تزيد في الأسعار، يجبرها التاجر من تلقاء نفسه إلى ريالات، ما يفتح المجال لمستغلي الأزمات، لإيجاد مصدر دخل إضافي دون وجه حق.
وبمناسبة التجار الانتهازيين.. يحضرني نقاش هاتفي مع صديق إعلامي مصري، تحدثنا خلاله عن السبب وراء ارتفاع الأسعار، وحينها طفا إلى ذاكرتي فكرة زيادة أسعار الغاز، وكيف يمكن أن يستغلها بعض أصحاب المخابز وغيرها من المحال التجارية التي تعتمد على الغاز وخصوصاً مطاعم البخاري، وهنا سألته: هل تتذكر «البخاري»، فبادرني بعد ابتسامة صاخبة: «كيف أنساه.. ما زال طعمه في فمي»، رغم أنه غادر المملكة ويعيش منذ فترة طويلة في بلده الشقيقة مصر.
وأنهينا المكالمة.. غير أن أفكاري لم تنته، وظلت تتقلب في رأسي يمنة ويسرة افتراضية زيادة أسعار وجبات البخاري التي تعد من (ندماء السُفرة السعودية).. فأعادني خيالي إلى يونيو الماضي، حين صدر قرار رفع سعر أسطوانة الغاز بنسبة بلغت 5 % فقط، فزاد سعرها من 18.85 ريالاً إلى 19.85 ريالاً، أي ريال واحد، فسألت نفسي: هل يمكن أن تنعكس هذه الزيادة بشكل غير مبرر على سعر تلك الوجبة اللذيذة؟.. ذلك ما لا أتمنى.
ولنكن منصفين، دعونا نحسبها بهدوء، إذا كان مطعم البخاري يستخدم 10 أسطوانات غاز يومياً لتجهيز ما يقارب 150 وجبة أزر بالدجاج، فستكون الزيادة 10 ريالات، مقسومة على عدد الوجبات فيصح الناتج 6 هللات، وبالطبع لا يمكن أن يطلب صاحب المطعم من الزبون هذه الهللات، بل سيجبرها إلى ريال كامل، وبضرب الناتج في عدد الوجبات اليومية ثم في 30 يوماً، سينتج وقتها عدد الريالات التي سيحصل عليها صاحب المطعم زيادة على الزيادة..!
وحتى لا يتزاحم رأسي ورأسك بأسئلة كثيرة، دعني أطرحها هنا، لعلها تجد إجابات شافية:
* كيف يمكن ضبط هذه الآلية حتى لا نثقل كاهل المواطن ولا نسمح للتجار بممارسة هذا الجشع المقنع؟
* وكيف لوزارة التجارة أن تتدخل في ظل تنافسية السوق المفتوحة؟
* وكيف ننمي حس الانتماء لدى التجار، ونحثهم على المشاركة في التخفيف عن المواطن؟
* وكيف نعيد للهللة مكانتها.. حتى لا نستيقظ على زيادة أقرتها الجهات المعنية بالهللة فيحولها التجار إلى آلاف الريالات في أرصدتهم؟
* وكيف نضمن تطبيق زيادة مقبولة تقرها الجهات المسؤولة بناء على التكلفة الفعلية للخدمة؟
* هل نحتاج إلى فتح قنوات جديدة لتلقي شكاوى المواطنين، لإيجاد حلول عاجلة؟
* أم أننا نحتاج إلى تفعيل كل ذلك بقرار سيادي..؟
سننتظر.. وكلنا أمل ألا تضع الجهات المعنية أيادي الطامعين في أفواهنا.. وألا يتركوا السوق بيد من يحركون رياحها بما تشتهي سفنهم..!
**
- عماد عسيري