حسن اليمني
لست بالمائق وإن تكاوس غُبّي علنكس وامِقي للسكباج... مدقق التحرير النشط لم يسمح لي بالاسترسال بل صاح بي مشتط غاضب وهو يقول: (تكلكست علابيبك في بنكرياسك) قلت: لست بالأحمق الغبي وإن كثر وتكاثف في عمق لبي خلط تراكم برغبة واشتهاء لإدام اللحم، والواقع أن مشهد الحوار رسم صورة من صور جنون العقلاء.
بين الجنون والمجنون مسافة في المعنى والقصد كبيرة ومتباعدة، فالمجنون على وزن مزكوم ومحموم مريض بفقدان القدرة والسيطرة على السلوك والتصرف ولا يميز في قيمة الأشياء، وبهذا فهو لا يمتلك الجنون ولا يقدر عليه لعدم أهليته العقلية، وحين يظهر منه تصرف عقلاني عن طريق الصدفة فإنه يعكس انطباعًا بالدهشة والإعجاب للمراقب يستحق الثناء ويدخل من باب الإبداع، والعكس من ذلك في العقلاء الذين يستخدمون الجنون إرادياً أو لا إراديًا بابتداع أفعال عكس المألوف لتصبح جنوناً، أي جنون في الفعل لعاقل أخفى ظهور العقل وأظهر جنته الخفية في حماقة أو غضب أو ذكاء واستغباء أو غرام وعشق وكثير من الأفعال والسلوك بما في ذلك الإبداع في الفكر والإنتاج، ألسنا نقول فكرة مجنونة أو جنون مبدع أو يجنن ويسرق اللب وهكذا.
إذن الجنون للعاقل والعقل للمجنون، والأمر كذلك، فالمرضى بالجنون يخصص لهم مشافٍ وحجر لأمنهم وسلامتهم في حين ينتشر ويتمدد جنون العقلاء بكل سعة وحرية، والأغرب أننا نراهم كثيرًا في المراكز العليا وكذلك الأوسع انتشارًا وشهرة والأعلى في المال والتجارة كمنطق طبيعي للسلوك والخلق الفكري والجراءة في الحسم، وبمعنى أنه ليس كله سلبيًا أو مذمومًا بل حاجة وأداة لإشباع الذات وغرور النفس، كثير من الأحيان ويرادفها ويصاحبها الانبهار والإعجاب والغيرة والحسد لمن يحمل نوعاً آخر مختلفاً من الجنون، ولعل أكثر أنواع جنون العقلاء يظهر في الحماقة التي بدورها تتنوع وتختلف اتجاهاتها ومساراتها إيجابًا وسلبًا، يحكم ذلك سهولتها ومنطقية كثير منها مثال الهيام في العشق والانتهازية في الطمع والذكاء في الغباء والنفاق في المهانة، وكذلك نجدها في التبلد في التغافل والبلاهة في الضعف وتنوعاتها في السلوك وحتى الأخلاق عديدة لا تحصى بين إيجابي وسلبي، والحقيقة لو أردنا تتبع جنون العقلاء لبقينا أياماً وأياماً نعد ونحصي، وخاصة في راهن العصر الذي أبدع في تلويث العقول بما لا يعقل، تبعه في ذلك تحول في الأخلاق والسلوك بما لا يعقل أيضاً، ويكفي أن نقول إن الرقي والتطور والتحضر الأعور الخادع وصل حد رفع المثلية وتشريعها وما هم بمجانين ولكنه جنون العقلاء إن جاز وصفهم بالعقلاء لعظيم المنجزات العلمية التي قدومها للعالم.
والحماقة وهي نوع من أنواع الجنون في العقلاء كما أشرت سابقاً تزخر بالعجائب المضحكة والمبكية، بين خفة وثقل وإبداع وتبلد، جميل جدًا هو الغباء المنقذ وقبيح جدًا الذكاء الهالك مثل جمال احترام العقول وقبح تسفيهها أو التذاكي بغباء مقابل السجية الفطرية، وكل هذا وذاك معامل جنون في عقول الناس والأمر يتوقف على طريقة الاستخدام، وليس صحيحاً أن التوسط في الأمور رجحان للعقل وكيس حكمة يؤمن السلامة لأن البحث عن السلامة بحد ذاته حماقة، ذلك أن الحياة تحتاج إلى الصعب وتحتاج إلى الخطر لتعطي الروح غذاءها وانتعاشها وانبعاث عطائها، والزهد في ذلك بخل في العطاء والبخل حماقة في حين أن الإقدام شجاعة، والشجاعة وإن كانت حماقة إلا أنها في الجانب الإيجابي.
ومن طرائف العقلاء المجانين أنه أدخل أحدهم على الخليفة الواثق لسوء في أخلاقه وهو يعلم أنه سيكون أمام امتحان لن ينجو منه إلا بضرب مبرح أو قتل، فاحتال بالخبث حيلة تنجيه وتؤمن سلامته، وحين أصبح أمام الخليفة بادره قائلاً: أعظم الله أجرك أيها الخليفة، يعظم أجري في من؟ سأل الواثق متعجباً فقال الرجل: عظم الله أجرك في القرآن! فزاد الواثق استغراباً ممزوجاً بغضب وتساءل: ويحك وهل يموت القرآن؟ أجاب الرجل: نعم وكل مخلوق يموت وإذا مات القرآن في شعبان فبأي يصلي الناس في رمضان؟ فأمر الواثق جنده بإخراج الرجل لأنه مجنون، وقد كان ادعاء خلق القرآن ظاهرًا في فترة من الدولة العباسية منذ أيام المأمون، وبهذا تغلب الإبداع على المنطق أو الجنون على العقل، أو بالأصح ادعاء الجنون على ادعاء العقل، وبقصة مشابهة أيضاً في عصر فتنة خلق القرآن استطاع أبا الصلت من الفكاك من تولي القضاء حين رشحه الخليفة لهذا المنصب وهو لا يريده ولكنه أُجبر على مقابلة الخليفة لهذا الأمر، وحين وقف أمام الخليفة بادره بالتعزية فتساءل الخليفة في من؟ قال في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإنه مات! فاشتاط الخليفة غضباً واستغرابًا وتساءل: كيف ما تقول؟ قال أبو الصلت إن كان القرآن مخلوقاً فكل مخلوق يموت، فطلب الخليفة من الجند طرده وإخراجه لأنه مجنون، ومثل ذلك حدث أيضاً حين أدخل أبا حنيفة -رحمه الله- على الخليفة العباسي المنصور الذي كان يريد أن يوليه القضاء وأبو حنيفة غير راغب فاضطر للاحتيال واستخدام الحماقة حيلة ليتخلص من الأمر حين قال: أنا رجل مولى ولست من العرب ولا تكاد العرب ترضى أن يكون عليهم مولى، واستمر يقول: إن كنت صادقاً في قولي فلا أصلح للقضاء وإن كنت كاذباً فلا يجوز لك أن تولي كاذبًا دماء المسلمين وفروضهم. ومن ذلك أيضاً ذاك الرجل الذي جاورته امرأة حسبها حمقاء بلهاء فطمع في ما لديها باقتراح الشراكة معها، وحين توافر الكسب وأراد بحماقة التذاكي أن يفض الشراكة ليأخذ حقها مضافًا لحقه وجدها أكثر حماقة منه حين لاججته بالشكوى والضعف والهون حتى أخذت ماله فوق مالها وفوق ذلك تعويضًا للتخلص من هذه الشراكة.