عبدالله بن عبيد الشهراني
في عصرنا الحالي لا صوتَ يعلو بالساحة الإدارية فوق صوت مؤشرات الأداء التي أصبحت أداةً رئيسةً بلا شك من أدوات الإدارة الحديثة، وبات يصدّح بها الكثير من المفكرين الإداريين والمديرين والمسؤولين في أكبر الشركات المحلية والعالمية، حيث تتجلى هذه المؤشرات في مقولاتٍ مثل: «ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته» أو «لا تستطيع إدارة ما لا تستطيع قياسه» أو حتى «ما لا يمكن قياسه لا يمكن تحسينه وتطويره»؛ لدرجة أن المتأمل في هذه العبارات وطريقة العمل بها، يرى أنها وصلت في الفكر الإداري إلى حد القداسة الإدارية -إذا جازت التسمية-.
وعليه فمن أين قدمت مؤشرات الأداء، وكيف غزت ميادين الإدارة؟، وأزاحت الكثير من المفاهيم والأدوات الإدارية عن عروشها، فلم نعد نسمع عبارات مثل: «العميل أولاً» أو «العميل على حق دائمًا»، حيث تمت إذابتها ضمن مؤشرات أداء كمية، بعد أن كانت هي رسالة المنظمة وقلبها النابض، فعلى سبيل المثال عندما يوضع مؤشرٌ يحدد مدة خدمة العميل في دقيقتين من أجل خدمة شريحة أكبر من العملاء، فلو كان هناك عميل يحتاج لفترة أطول، ففي هذه الحالة سيكون الموظف بين أمرين: إما الإخفاق في المؤشر والنجاح في خدمة العميل، أو النجاح في تحقيق المؤشر والفشل في إرضاء العميل، وهو ما قد يولد منظمات نجحت في تحقيق جميع مؤشرات الأداء بكفاءةٍ عاليةٍ، ولكنها في نهاية المطاف فشلت في كسب ولاء العملاء لها.
لذلك في هذه المقالة أحاولُ الغوص في الجذر الفلسفي الذي أنبت لنا هذه الشجرة العملاقة التي تُشابه الشجرة المقدسة عند شعب باندورا في فيلم أفاتار الشهير، وكيف بدأت أسطورة مؤشرات الأداء في الفكر الإداري الغربي، لقد بدأت القصة من مفهوم العلم نفسه في الفكر الغربي، حيث لا يُطلق العلم لديهم إلا على العلوم المادية، حيث تدرس الفيزياء المادة المحسوسة، وتدرس الأحياء علوم المادة الحية، في حين تدرس الرياضيات المادتين السابقتين بشكل مجرد، لذا عندما وُلدت العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس، سارت على نفس المنهجية والتصورات للعلوم الطبيعية، وعملت على تقليدها؛ لأجل أن تظفر بحمل مسمى العلم والعلمية.
لقد تبنت العلوم الإنسانية الفلسفة الوضعية (Positivism) كمرجعيةٍ لها، وإطار عمل يوجهها إلى كيفية إجراء عملياتها بالبحث العلمي، وهذا النموذج الفلسفي الذي يُقدّم افتراضاتٍ حول العالم وطبيعة المعرفة نشأ بالأساس بالعلوم الطبيعية، ثم ارتحلَ للعلوم الإنسانية؛ لكي يفترض أن الواقع الاجتماعي موضوعي وبعيد عن الذات، ويمكن التعرف عليه وإخضاعه للاختبار والقياس، لذا فإنَّ علم النفس على سبيل المثال تشكلَ وهو يرى النفس الإنسانية ويتصورها على أنها مجرّد تفاعلاتٍ كيميائيةٍ في جسد مادي، وبالتالي يمكن أن تُقاس ويوضع لها قوانين صارمة وثابتة.
وفي شأن متصل، وبعد معرفةِ الباب الذي ولجت منه المقاييس للعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تنطوي العلوم الإدارية تحت عباءتها، يتبادر التساؤل حول افتراض كون الواقع الاجتماعي موضوعياً بالأساس، هل هو حقًا بعيد عما يدور في الذهن والذات البشرية؟، لذا تحاول نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) الإجابة عن هذا التساؤل عبر توجيه أسئلة إبستمولوجية مثل: هل يمكن أن نعرف؟ ما الوسائل التي تحقق لنا المعرفة المرجوة هل بالعقل أو بالحواس أو الإلهام والحدس؟ ما قيمة ما يتم التوصل إليه من معارف عبر هذه الوسائل؟ هل هي معارف يقينية ثابتة مطلقة لا تتغير أم هي نسبية قابلة للتغير وقابلة للخطأ والصواب؟
يرى الدكتور إدريس نغش الجابري، في محاضراته حول فلسفة العلوم والإبستمولوجيا: أنه من غير المنطقي أن يتم اعتبار المشاعر الإنسانية مثل: الظواهر الكيميائية التي تتكرر بنفس الصيغة ونفس النمط، لذا فإنَّ علمية العلوم الإنسانية التي اتخذت من العلوم المادية الطبيعية نموذجًا لها واجهت معضلةً حقيقيةً في هويتها العلمية؛ وذلك لكونِ الظاهرة الإنسانية ظاهرة غير متكررة ومتفردة، فشعور الحزن أو الفرح على سبيل المثال يختلف من شخص إلى آخر، فكل فرد يعيش هذا الشعور بطريقته الخاصة.
كما أن الظاهرة الإنسانية ليست جليةً أو نستطيع أن نقول: إن لديها خاصية الخفاء؛ لأنَّ الظاهرة النفسية لا تُظهر الشعور وكذلك اللاشعور لا يمكن رؤيته، والأصل أن أكثر الحالات النفسية لا تظهر للعيان، وبالتالي كيف يمكن دراسة هذه الأمور الخفية بأساليب تجريبية!، كما أنَّ هناك أمرا آخر هو كون الخاصية الإنسانية خاصية معقدة؛ فأي قضية إنسانية حتى ولو كانت بسيطة إلا أنها تتشعب وتتمدد وترتبط بعدة مجالات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية وسياسية وغيرها، بينما في الظاهرة المادية الطبيعية يمكن إخضاع المادة للاختبار والدراسة، ويتم التحكم بالظروف المحيطة داخل المعامل، ورصد استجاباتها وقياسها، لذا لا يمكن أن يتم دراسة الإنسانبشكل منعزل عن تأثير البيئة المحيطة كما يتم ذلك مع المادة الطبيعية، لذا فإنَّ الظاهرة الإنسانية تنفرد بخفائها وتعقيدها، وهو ما يجعل البعد الإنساني ليس بعدًا واحدًا ولكن أبعادٌ متعددة، وقد انتقد ماركوز في كتاب (الإنسان ذو البعد الواحد) التصور الأحادي للإنسان، وأنه يمكن أن يتم دراسته من بُعد واحد.
لذلك فإنَّ سر جاذبية مؤشرات الأداء وعمليات قياسها للفعل الاجتماعي يكمن في تعاملها مع الإنسان ضمن بـُعدٍ واحدٍ وليس ضمن أبعادٍ متعددةٍ، وبالتالي فهي عملية سهلة، وأقل تعقيدًا لدى صانع القرار الإداري، كما أنها تتناسب مع طبيعة الحياة المعاصرة في سرعة التغير.
إن َّالنقد الموجه لمؤشرات الأداء وقياس الإنجاز في هذا المقال، لا يعني أن فكرة القياس مرفوضة، ولا يُوصى بها في الحقل الإداري، بل لا شك أن لها فوائد مشاهدة على أرض الواقع، وساعدت الكثير من الشركات وحتى الدول على تحقيق إنجازات وقفزات كبيرة، بل يهدف المقال إلى نزعِ القداسة عن هذه المؤشرات، والدعوة لعدم استخدامها كموجهٍ وحيدٍ لسلوك العاملين بالمنظمة لتحقيق أهدافها، وربط النجاح الوظيفي في تحقيق هذه المؤشرات؛ لكونها بكل بساطة تتعامل مع إنسان مركب ومعقد، ولا يمكن اختزاله في مقاييس كمية مجردة، لذا يلزم العمل على تطويرِ مؤشراتِ أداء نوعية بجانب المؤشرات الكمية.
وعلى هذا كم سوف يكون رائعًا لو تم استبدال عبارة: «ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته» بعبارة أخرى ولتكن مثلاً: «ما يمكن قياسه يمكن إدارته، وما لا يمكن قياسه لا يمكن تجاهله»، وهذه عبارة أكثر تفسيرًا لحقيقة الفعل الاجتماعي، وهي كذلك تتلاءم مع الوسطية بفكرنا العربي الإسلامي؛ لأن مفهوم العلم في الثقافة العربية الإسلامية لا يُشترط أن يكون تجريبيًا فقط، فمصادر تلقي العلوم لدينا متعددة ومتنوعة، وأوسع بكثير منها في الثقافة الغربية التي حجرت واسعًا، لذا ينبغي أن تكون ثقافتنا هي الجذر الفلسفي لفكرنا الإداري، وليس عبر استيراد فلسفات غربية نشأت وترعرعت في بيئاتٍ وخلفياتٍ ثقافيةٍ مغايرة لنا، وتتمظهر في الكثير من الأمور ومنها مؤشرات القياس الكمية.
**
- باحث سعودي