مشعل الحارثي
المعلم والمربي القدير الأستاذ حسن الطف اسم محفور في ذاكرة التاريخ وسجل رواد التعليم بالطائف, فقد قاد الرجل تجربة تعليمية تربوية ناجحة يزدان ويشرف بها وبأثرها الميدان التعليمي في العقود الأولى من مراحل تأسيس البلاد وبدء نهضتها التنموية, حيث قام في بداية العام الدراسي (1366هـ - 1946م) وبجهوده الذاتية ورغم قلة ذات اليد بافتتاح أول مدرسة ليلية بالطائف لتعليم من فاتهم قطار التعليم عرفت بمسمى (المعهد الليلي) وكان يقوم بالتدريس به بعد فراغه من عمله الحكومي.
لقد زار الأديب الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار رحمه الله هذه المدرسة منذ تأسيسها عدة مرات وكان أحد المهتمين لأمرها والمعجبين بهمة صاحبها وإيمانه برسالته التي يقوم بها ونذر نفسه من أجلها، وكان آخر هذه الزيارات عام 1371هـ وكتب مقالاً قبل أكثر من سبعين عاماً نقل لنا فيه صورة حية واقعية مما شاهده في هذه المدرسة، وما يبذله صاحبها من إيثار وجهد كبير لخدمة العلم وطلابه فقال: إن الطائف كان محروماً من مدرسة ليلية تعنى بأمر الأميين الذين لا يجدون فراغاً في النهار للدراسة لاشتغالهم فيه بأمر العيش، وتتيح لهم فرصة التعلم، وقيض الله لمصيف الحجاز أستاذاً انتقل إليه من مكة منذ بضع سنين ليقوم بالتدريس بإحدى المدارس الأميرية، وما كاد يقضي بها سنة أو سنتين حتى اتصل به بعض المحرومين من القراءة والكتابة والعلم وطلبوا إليه أن يعلمهم أمور دينهم، فحقق رغبتهم وأتاح لهم الفرصة من جديد، واتسعت حلقة درسه فاختار مسجداً مهجوراً قرب مسجد ابن عباس رضي الله عنه وجعله مدرسة ليلية للأميين وأنتجت هذه المدرسة الليلية خير ما تنتج مدرسة ليلية بالمملكة، وتخرج منها أكثر من مائة خلال أربع سنوات كانوا أميين جهلاء فأصبحوا متعلمين، وبها الآن حوالي سبعون طالباً.
هذا المؤسس الفاضل الأستاذ الشيخ حسن ألطف المدرس بالمدرسة السعودية الأميرية بالطائف، وليعرف القاري، حقيقة هذا الرجل التي عرفتها من صحبتى إياه، أذكر أن الشيخ ألطف كان مؤسساً ومديراً لمدرسة بالمسفلة بالدولة كان اسمها مدرسة الاعتصام ومنهجها منهج المعارف ولكنها أغلقت سنة 1355هـ عندما جفّ نبع موردها.
ويوضح العطار موارد الدخول للصرف على مدرسة الطائف فيقول: أما وارد المدرسة فغير ثابت ومعظمه من الطلبة، وقليل منه من أهل البر والخير من غير الطلبة، وبالمدرسة أربعة مدرسين غير المؤسس الذي يقوم بالإدارة والتدريس، وهذا المؤسس رجل فاضل مطبوع على الخير، له سبعة أولاد وراتبه في المدرسة السعودية التابعة للمعارف لا يزيد على (300) ريال، ومع هذا الضيق يتبرع ببعضه للمدرسة الليلية عندما يضيق واردها بالنفقات.
وقد سخر الله له أساتيذَ کراماً يحبونه ويخلصون له فيعملون معه دون طمع في مال، ومثل هذا المؤسس وهؤلاء المدرسين الجنود المجهولين في الأمة يعملون في صمت وسكون بعيدين عن الضجة والصخب لأنهم يؤدون واجباً يريدون منه وجه الله.
ومن مشاهداته أيضاً يقول الأستاذ العطار: رأيت ثلاثة من الطلبة يقطعون خمسة كيلو مترات في ذهابهم إلى المدرسة ومثلها في رجوعهم كل ليلة ومع هذا فهم سعداء لأنهم يقطعون الطريق الطويل في سبيل الله.
وعن انطباعاته الشخصية من زياراته المتكررة للمدرسة وبعد أن اختبر مجموعة من طلابها يقول الأستاذ العطار: الحق أن طلبة هذه المدرسة أذكياء يخلصون، ولهذا أثمر فيهم التعليم أطيب الثمر، ويدل على مبلغ حبهم للتعلم وإخلاصهم له أنهم من العمال الذين يقضون نهارهم في العمل الشاق المضنى، ثم يصلون العشاء وينتقلون إلى المدرسة يشغلون وقت راحتهم بتلقي العلم وكنت أخرج كل مرة وأنا سعيد مسرور، وأقدم لها من العون المادي فوق ما تطيقه نفسي، أما في هذه المرة فقد بلغ سروري بالمدرسة والطلاب والأساتيذ حداً عظيماً، وهذه المدرسة تضم من الطلبة حوالي سبعين، فيهم بعض جنود الدفاع والشرطة وبعض الدلالين والباعة المتجولين، وفيهم عمال الحجر والطين، وهي مكونة من أربعة فصول، ويتعلم طلبتها القراءة والكتابة ثم القرآن والفقه والتوحيد والمطالعة والإنشاء والتاريخ والإملاء والخط والنحو.
ثم وجّه دعوته لرجال الأعمال والموسرين للمشاركة في هذه دعم المدرسة وغايتها السامية وأوضح ما آلت إليه أوضاع هذه المدرسة فقال :إن هذه المدرسة تحتل مسجداً قديماً مهجوراً ضيقاً وهو في غرفة واحدة يزدحم فيها الطلبة ازدحاماً شديداً، وجود الأربعة الفصول في غرفة واحدة مع خمسة من المدرسين يشوش على الطلبة مطالباً إياهم بأن يجعلوا لها نصيباً مفروضاً لتمضي قدماً وتؤتي أكلها.
ثم جاءت الاستجابة السريعة من رجل الأعمال الشيخ حسن شربتلي في تبرعه لإنشاء مبنى لنقل المدرسة إليها بجميع مرافقها، كما خصص لها مساعدة مالية شهرية قدرها ألف ريال لتستعين بها في رواتب الموظفين وتعفي فقراء الطلبة من المقررات الشهرية .
والأستاذ حسن ألطف من مواليد مكة المكرمة عام 1327هـ وبها تلقى علومه الأولية، وبعد أن جرب حظه في عدد من الأعمال والمهن التحق معلماً بالمدرسة السعودية بمكة المكرمة وبعد عدة سنوات نقل إلى المدرسة السعودية بالطائف مدرساً وظل بها حتى أصبح مديراً لها وكانت في عهده في أوج بروزها تعليمياً وإعلامياً ومن خلال ما كان يطبق بها من مناهج حديثة وأنشطة وفعاليات متعددة، وقد أورد الأستاذ الدكتور سليمان كمال الأستاذ بجامعة أم القرى سابقاً ترجمة وافية عنه في كتابه المرجعي والهام (التعليم في الطائف وبعض رجالاته في القرن الرابع عشر الهجري)، وقد انتقل الأستاذ حسن ألطف إلى جوار ربه يوم الأحد 1408/6/12هـ إثر حادث مروري أليم وهو في طريقه إلى مكة المكرمة وخلف وراءه سبعة من الأبناء الذكور وأربع بنات أحسن تربيتهم وتعليمهم وخدموا بلادهم على خير وجه، وقبل ذلك كله ترك صورة مشرقة لهمة الرجال الأوفياء المخلصين لوطنهم ومواطنيهم، وذكراً خالداً لا تمحوه السنين رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح الجنان .