عبدالرحمن الحبيب
من أين يأتي الإبداع؟ من أوائل من حاول الإجابة الفلسفية عليه هو أفلاطون الذي اعتبر أن الإبداع يأتي من وحي ممزوج مع جنون، وعلى نقيضه تلميذه أرسطو اعتبره عملاً عقلانياً يركز على النتائج. هذا الفرق الشاسع في الرؤية يوضح مدى صعوبة الاتفاق على كيفية تشكّل الإبداع. البعض يرى أن الإبداع موهبة فطرية، بينما يراه آخرون ممارسة منظمة يمكن أن تأتي بالتدريب والمثابرة حتى أن ألبرت ريد، مؤلف كتاب «عضلة الخيال» يرى أن الإبداع عضلة يمكن «تدريبها وتطويرها... وسوف تصبح مرنة بمجرد تحفيزها في إيقاع النشاط»؛ وبين هذين الرأيين المتناقضين تشكيلة متنوعة من الآراء. فرغم أن الإبداع في أي عمل (فني، تكنولوجي، فكري، رياضي) قيمته عظيمة لدى البشر، إلا أنه لا يوجد اتفاق على ماهيته وكيفية تشكّله، باستثناء وجوب أن يتصف بالأصالة (عمل جديد) وأن يكون ذا قيمة (معنوية أو مادية).
عندما رسم بابلو بيكاسو تحفته الفنية الأشهر «غيرنيكا»، كان أثناءها يحاول عشرات الرسوم التي تشكلت من المسح والإعادة لتُظهر نسخاً لكل من الأشكال التي وصلت لعمله النهائي. خلال هذا العمل لم يظهر تقدماً واضحاً، إذ ظهرت بعض الأشكال الأولى التي رسمها في اللوحة، وظل يعيد صياغتها حتى بمجرد أن يبدأ الرسم بها. عمل بيكاسو هنا هو رمز لفعل الإبداع الفوضوي: «من المحتمل أن بيكاسو لم يكن يعرف تماماً إلى أين كان ذاهباً، بشكل خلّاق، حتى وصل إلى النهاية» حسبما جاء في كتاب «الحماس إلى الإبداع: كشف أسرار العقل الإبداعي» لمؤلفه سكوت باري كوفمان، عالم النفس المعرفي والمدير العلمي لمعهد الخيال بجامعة بنسلفانيا، والكاتبة كارولين غريغوار.
الكتاب يحاول كشف أسرار العقل الإبداعي استناداً إلى الأبحاث المنهجية، ليعطي لمحة عن «العقول الفوضوية» لمشاهير المبدعين، كاشفاً أحدث النتائج في علم الأعصاب وعلم النفس، مع أمثلة جذابة للفنانين والمبتكرين عبر التاريخ، ويسلط الضوء على ممارسات وعادات العقل التي تعزز التفكير الإبداعي.. حاول المؤلفان فك سلسلة من عشر مفارقات يفعلها الأشخاص المبدعون بشكل مختلف: اللعب التخيلي، الشغف، أحلام اليقظة، العزلة، الحدس، الانفتاح على التجربة، اليقظة، الحساسية، تحويل الشدائد إلى ميزة، التفكير بشكل مختلف؛ لإظهار أنه من خلال تبني تناقضاتنا الخاصة، يمكننا الاستفادة من أعمق إبداعاتنا..
يستكشف كل فصل بالكتاب إحدى السمات والعادات العشر من عمل وحياة مشاهير المبدعين: بيكاسو، فريدا كاهلو، مارسيل بروست، ديفيد فوستر والاس، توماس إديسون، جوزفين بيكر، جون لينون، مايكل جاكسون، والموسيقي توم يورك، وبطل الشطرنج جوش ويتزكين، ومصمم ألعاب الفيديو شيجيرو مياموتو... ليصل إلى نتيجة تمثل لمحة حيوية وملهمة ومنهجية علميّاً عن أعمال العقل الإبداعي، في محاولة لفهم الإبداع بشكل أفضل، وكيفية إثراء هذا الجانب الأساسي من حياتنا. وفي نهاية رحلة الكتاب للبحث عن الإبداع، وجد المؤلفان أن حافز الإبداع نادراً ما يكون مرتباً أو خطيّاً، بل هو «عمل يعكس طبيعتنا الفوضوية والمتعددة الأوجه بشكل أساسي».
يراجع دوجلاس كوبر هذه العادات العشر بداية من اللعب التخيلي كسمة للعقول المبدعة، مثل الأطفال في اللعب، يضعون أنفسهم في مواقف خيالية غير عادية، أو كما صاغها جورج برنارد شو، «نحن لا نتوقف عن اللعب لأننا نكبر؛ إننا نكبر لأننا توقفنا عن اللعب». أما الشغف فهو يغذي الإبداع، بينما مخرجاته تعزز الشغف، إذ نرى هذا الشغف في معجزة الأطفال، مثل عازفة التشيلو يويو ما، ولكن أيضاً في الفنانين كبار السن، مثل الجدة موسى (رسامة فلكلورية).
إحدى السمات المميزة للعديد من المبدعين هي أحلام اليقظة، حيث الربط بين عناصر متناقضة لا يتم دون أن نسمح لعقولنا بالتجول، فكثيراً ما تكون الحلول الإبداعية عبارة عن ضم عناصر متناقضة ظاهريّاً.. كالجمع بين الحلو والمر. لإنشاء هذه الروابط بطريقة أكثر إبداعاً تأتي العزلة، فغالباً ما يفضل المبدعون أن يكونوا بمفردهم، لكنهم لا يشعرون بالوحدة، فالهدف هو تقليل «ضوضاء» العالم، حتى يتمكنوا من التفكير بشكل أكثر وضوحاً وتتم الروابط المبدعة.
إذا كانت اليقظة تبدو عكس «أحلام اليقظة»، فيبدو أن لكل منهما وقته المناسب، فاليقظة بتركيز كامل الذهن هي الوعي المقترن بالفضول والانتباه.. النظر إلى خارج أنفسنا، لكن النظر إلى الداخل له ميزة أيضاً.. وإذا كان العقل يدعمنا لحدٍّ معين، فإننا بعدها نميل إلى الاعتماد على حدسنا، وهو نوعاً ما نتاج تجربتنا، ومع نضجنا نمتلك المزيد منه.. يصف ستيف جوبز الحدس بأنه «أقوى من الفكر». أما الانفتاح على التجارب فهو يمكننا من البحث عن مواقف جديدة، وأشخاص جدد، ومساعٍ جديدة، ويمكننا أيضاً أن نشكل رؤية ظروفنا الحالية بطرق جديدة.. ونسأل أسئلة جديدة: «ماذا لو...؟»
بقي التفكير الأصيل الذي يعد سمة مميزة للأشخاص المبدعين، فالرغبة بعدم التوافق مع التصور العام إلى جانب الدروس التي يتم تعلمها، ينتج عنها وجهات نظر قد تكون غير عادية.. يمكن لتراكم خبراتنا الفريدة أن تضعنا في مواقف نحصل من خلالها على وجهات نظر إبداعية... أخيراً، هل يمكن وضع وصفة محددة للإبداع؟ لا يبدو الأمر كذلك، بل سيظل الإبداع شيئاً ثميناً ومحيراً في نفس الوقت..