رضا إبراهيم
تجدر الإشارة إلى أن كلمة (عدوانية) في اللغة العربية، مشتقة هي الأخرى من الأصل الثلاثي (عدا)، أي جرى أو أسرع في السير، فيقال عدا عليه عداءً وعدواناً أي ظلمة، ويبدو أن درجة العنف التي ينطوي عليها الفعل الثلاثي العربي، عدا لما يحمله من معنى السرعة أعلى من درجة العنف المتضمنة في الفعل الفرنسي (أجراسير)، الذي يحمل فقط معنى المشي نحو الآخر أو ضده، ولفظ عدوانية في القاموس العربي، هي مصدر صناعي من «عدوان»، أي تعدٍّ وانتهاك لحرمات الآخرين.
وقد جرى تعريف الشخصية العدوانية، بأنها شخصية قد تبدو طيبة ومسالمة، لكنها في الحقيقة تحمل عدواناً كبيراً في داخلها، يخرج بطريقة غير مباشرة وغير معلنة, وهي شخصية لم تعتَد المواجهة، أو التعبير عن رأيها والدفاع عن نفسها، فيمكن أن تكون قد تعرضت في طفولتها لنوع من القهر أو الكبت، لذا فهي تخاف الناس ولا تصارحهم بمشاعرها الحقيقية، حيث يرفض الشخص العدواني على الدوام، القيام بالمهام والأعباء الاجتماعية والعملية التي تطلب منه.
والعدواني يشكو دوماً من أن الناس لا تفهمه ولا تقدره، وهو كثير الجدال ويظهر الحقد والحسد لمن هم ناجحون ومحظوظون، وهو دائم النقد للسلطات وأولي الأمر وكثير الاعتمادية على الآخرين، كونه يعتقد أنهم يجب عليهم تأدية المهام التي يفترض أن يقوم هو بها، وفي الغالب لا يوجد أصدقاء مؤيدون له، فهو متقلب تارة بين العنف والجرأة وتارة أخرى بين الندم والغيرة.
وتجدر الإشارة إلى أن المرء يمكن أن يصبح كائناً عقلانياً، لكنه أولاً كائن غرائزي وبواعثي، تشكل الغرائز جزءاً كبيراً من طاقاته، فعندما تكون تلك الطاقات معقودة جيداً فإنها قد تعمل على هيكلة شخصية الفرد وتوحدها، وأما عندما تنحل فإن بنية الفرد بكاملها تفقد هيكلتها ووحدتها، والعدوانية هي إحدى هذه الطاقات، مثلها مثل العديد من الأشياء، فقد تكون نافعة أو قد تكون ضارة، أو تكون هدامة أو خلاَّقة أو غير ذلك.
ما يعني أن الغضب الذي يمكن له أن يستبد بالفرد، يمكن أن يفقده كل سيطرة على نفسه، ويعد ذلك في حد ذاته إسرافاً في العدوانية، لأن الغضب هو الانفعال الذي نستشعره، عندما تتعرقل أيٌّ من أهدافنا على حين غرة، أو عند الاصطدام بالواقع أو عند الشعور بالظلم الشديد.
ومن أهم الأسباب التي تقف وراء جعل الفرد عدوانياً، التنشئة الاجتماعية وخاصة أساليب التربية، فمن الواجب أن تكون التربية متصفةً بالاعتدال، وليس بها حزم شديد أو تدليل مفرط، وهناك أيضاً العوامل الوراثية، فقد يجد الفرد نفسه عصبياً عدوانياً، نظراً للاستعدادات الوراثية، التي يولد الفرد ويكون مزوداً بها وتدعمها البيئة التي ينشأ فيها، كما أن هناك «غدداً وهرمونات» وبعض الإفرازات الهرمونية، التي تجعل الفرد أكثر عصبية وعدوانية.
وهناك الإحباط الذي يصيب الفرد، ويجعله لا يهتم أو يبالي بمن حوله أو أمامه، إذ إن النموذج الذي يعتبره الفرد قدوة أمامه، قد يتصف بتلك الصفات، كما أن مشاهدة مناظر العنف والتطرف وخاصة أفلام العدوان والأكشن، وبعض ألعاب الكمبيوتر، التي تحتوي على كثير من العنف، أو كثير من الدماء مثل الألعاب المرعبة، وخصوصاً ذات التقنية المجسمة، قد تجعلها كأنها واقعية إلى حد كبير، وهناك عوامل أسرية تزيد من العدوانية من بينها خلل البيئة الأسرية في الطفولة، خاصة وأن الطفل أكثر تأثراً بها من الشخص البالغ.
وقد يلزم ارتباط الطفل من النواحي العاطفية بشخص بالغ وأن يكون هذا الارتباط دافئاً ومدعماً وثابتاً، وهذا لا يتحقق في حالة انفصال الوالدين أو هجران أحدهما للآخر، أو إدمان كلاهما أو إدمان أحدهما، أو في حالة ما إذا كان أحد أفراد الأسرة شخصاً كل أفعاله تكون مضادة للمجتمع، أو أن يكون أحدهما مريضاً نفسياً، كما أن فقر الأسرة وازدياد عددها، يمكن أن ينمي السلوك العدواني لدى أطفالها.
لأن الإحباط ونقص الإشباع لحاجات الطفل، ونقص التنظيم داخل الأسرة، وضعف الرقابة الأبوية للأبناء، من أهم الأسباب التي قد ينشأ عنها العدوان، فقد لوحظ أن كثرة تغيير الأسرة لمحل إقامتها، لا يعطي أفرادها فرصة لإنشاء علاقات ثابتة مع الجيران، بل يحبطهم ويجعلهم أكثر عدواناً، كما أن التربية القاسية التي تقهر الطفل وتعاقبه بدنياً، وتؤلمه نفسياً يمكن أن تنمي العدوان لديه، لأنه يتعلم من خلالها أن العدوان من القوي إلى الضعيف، هو أمرٌ مقبولٌ وطبيعيٌّ ولا ريب فيه أبداً.
ومن الواضح أن الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات والحرائق، تزيد من انتشار العنف والعدوان في المجتمع الذي يصاب بها، وهناك عددٌ من التفسيرات العلمية على أثر عوامل المناخ، وبالأخص درجات الحرارة في السلوك الإجرامي سواءً من ناحية الكم أو النوع، وكان أهم تلك التفسيرات وأولها التفسير الطبيعي، الذي يرى أصحابه أن اختلاف عوامل المناخ، من نواحي الضغط والرياح والرطوبة، وبصفة خاصة درجات الحرارة، ومدى انتشار ضوء الشمس، قد يكون له صلة مباشرة بالسلوك الإجرامي.
وكان تفسيرهم هذا، يتلخص في أنه من خلال أثر الحرارة، في حدوث زيادة حيوية الإنسان ونشاطه، بما يجعله أكثر استعداداً للانفعال والإثارة وصولاً إلى العدوانية، كما أن العلاقة بين عوامل المناخ والسلوك الإجرامي، وعلى خلاف التفسير الطبيعي علاقة غير مباشرة، فازدياد جرائم الأشخاص في الصيف، جاء تفسيرها بأن الناس يتركون منازلهم ويقضون وقتاً طويلاً خارجها، حيث يتجمعون في الأماكن والطرقات العامة، ومن ثم يزداد الاحتكاك فيما بينهم، ما يؤدي إلى ارتكاب جرائم العنف.
كما يعتبر الإحباط من أهم النظريات التي تفسر حدوث العدوان، بجانب الشعور بالذنب والحاجة اللاشعورية إلى العقاب، فقد يكون الشعور بالذنب هو الدافع إلى السلوك العدواني، بل ويقدم على ارتكاب ما يستوجب العقاب لينال عقابه، وبعد أن يعاقب يشعر بالرضا والتوازن النفسي، ولكنه يكرر السلوك العدواني بطريقة لا شعورية، كلما شعر بحاجة إلى العقاب.
ومن الملاحظ أيضاً أن البطالة تؤدي في العديد من الأحيان إلى نوع من العزلة الاجتماعية، ومن ثم تضعف علاقاته الاجتماعية، وتتضاءل قدرته على التضامن مع المجتمع الذي يتعايش معه، إلى أن يصاب ذلك الشخص بالوحدة، ويشعر بالغربة بين مجتمعه وقومه وأهله، الأمر الذي يجعله يتخلى عن التزامه بالمعايير والقيم الاجتماعية السائدة، كما أن انهيار تلك القيم والمعايير لديه، لهو أمرٌ قد يؤدي للجوء إلى قيم ومعايير أخرى كي تتناسب مع ظروفه الجديدة، لتصبح مبرراً لعدوانيته، وقد يأخذ العدوان أشكالاً عديدة، منها العنف الجسماني ضد الآخرين.
مثل الضرب والعض والتشويه والقتل والاغتصاب والسطو بكافة أنواعه وطرائقه، ولم يقف الأمر عند الأفراد فقط، وإنما يصل إلى بروز العنف ضد الأشياء المادية، بالقيام بكسرها أو حرقها أو إتلافها، والعنف ضد النفس بتشويهها أو إيذائها أو قتلها، وهناك العدوان اللفظي، الذي يشمل سب وقذف الآخرين بالألفاظ المقززة، وإيلامهم نفسياً والكذب الدائم الذي يوقع الفتنة والوقيعة بين الآخرين. وهناك العدوان السلبي، والذي يتمثل في عدم مساعدة الآخرين عند الحاجة إليه، وليس الغضب شكلاً من أشكال العدوان، ولكنه انفعال يتميز بدرجة كبيرة من النشاط بالجهاز العصبي السمبتاوي، وبشعور قوي من عدم الرضا، وليس بالضرورة أن يتلازم الغضب مع العدوان، فقد يمكن أن يؤدي الغضب، إلى سلوك صامت أو انسحاب أو سلوك بناء، فالعدوان بدوره يمكن أن يحدث نتيجة بواعث ونزعات داخلية، من دون أن يسبقه غضب، وأحياناً يوجه الغضب إلى الداخل، فيتصرف الشخص تجاه نفسه بعدوانية، فيحط من قدر نفسه، وربما يمارس العنف ضد نفسه، مثلما يمارسه مع الآخرين من حوله. وقد ميز علم النفس السلوك العدواني السلبي «المستتر»، بأنه عبارة عن نمط متكرر من المقاومة المستترة، لمتطلبات العمل التي تكون موكلة للفرد، والتي تظهر بصورة فيها معارضة شديدة أو عناد، أو اتخاذ المواقف السلبية، كرد فعل تجاه ما يتعلق بالعمل أو الأفراد، وهي تظهر بوضوح تام في أماكن العمل، حيث تظهر المقاومة السلبية أي المستترة على شكل التكاسل أو «التلكؤ» في القيام بالعمل، أو نسيان متزايد، أو تدنٍّ مقصود للكفاءة، وخاصة عندما تكون تلك الأوامر موجهة من قبل سلطة أعلى. كما يمكن أن تظهر تجاه أفراد آخرين، ويمكن أن تسوء تدريجياً حتى تصل إلى حالات وضع العقبات، وإفشال متعمد للمهام، بينما عرفت «الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين» السلوك العدواني المستتر في دليلها، بأنه عبارة عن نمط شائع من المواقف السلبية، أو المقاومة السلبية تجاه الأداء المطلوب في الأوضاع الاجتماعية والمهنية على حدٍّ سواء.