د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما يكون لديك الوقت الكافي، فإنك تحاول أن تخرج من دائرة قراءاتك حول العقائد والتاريخ والأدب والعلوم البحتة من زراعة وتغذية وفلك، وأخرى مثل الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلوم إدارية وغيرها، إلى شيء جديد تحلق فيه بما له وما عليه، لتنقل نفسك من العلوم المتعلقة بالجسد، وعلوم الدنيا إلى عالم آخر يتعلق بالروح وما يكتنفها من الحب والعشق، وتجد ذلك عند المحبين مثل قيس بن الملوح، وجميل بثينة، وكثير عزة، وغيرهم، كما تجد الحديث عن العشق والمحبة أيضاً عند الصوفية مثل ابن العربي والتبريزي، وجلال الدين الرومي، وابن الفارض، ولسان الدين بن الخطيب، وغيرهم كثير، والكتب في هذا الميدان ليس لها حصر.
في كتاب أنس العاشق لمؤلف مغربي مجهول قمت بتحقيقه قبل بضع سنوات، نقل لنا رأيه في الفرق بين المحبة والعشق بعد أن عرض بعض الآراء والأقوال في العشق، فقال: العشق مقرون بشهوة، والحب مجرد في غالب أمره من الشهوات، يقول الله تعالى: {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، ولم يقل يعشق، وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القلوب جنود مجندة فما تقارب منها إئتلف، وما تباعد منها اختلف)، وقال القاضي أبو المعالي: (المحبة حالة يجدها العبد في القلب، وهي أشرف من يشار إليها ببنان، وألطف من أن يعبر عنها بلسان).
ولقد أكثر الأدباء والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع في تفسير الحب ودرجاته فذكروا الحب، والعشق، والشغف، والولع، والهيام، وغير ذلك، وأكثروا من وصفه نثراً وشعراً، ولأنه فطري، فهو يكون أقوى في المناطق الخالية من ضغوط الحياة، والفسيحة، ذات الأفق الواسع، فيستلهم ساكنيها مرامي العشق، ويستطعم لذة الحب، ولهذا فإننا نجد أن معظم العشاق في العصر الجاهلي، وما بعده هم من سكان الصحراء والواحات القريبة منها.
لكن هناك حب آخر يعبر عنه بجمل ومعاني عميقة جدًا، ورموز لا تكاد تدرك، وتشابيه صعبة الفهم، وتصاوير عسيرة الهضم، فهي تحاكي الروح، وتسبر أغوارها، وتتواصل معها في مرحلة معينة وتناجيها، ومنها ما يذهب بعيدًا عن محبة الإنسان إلى محبة أسمى وأجل وأعلى، وهي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا، وفوق ذلك كله قد يحلق الإنسان بعيداً ليدفع بحبه إلى خالقه جل وعلا متجاوزاً ما سواه من أهل وأقارب، ويتعلق بذلك الحب الأبدي، لكن أسلوب التعبير عنه، وما يصاحبه من ممارسات قد تفرغه من مضمونه الجميل، فلو أخذنا على سبيل المثال لسان الدين بن الخطيب في كتابه (روضة التعريف) لوجدنا أنه رسم لنا الحب في هيئة شجرة، وبين جذورها، وفروعها، وأوراقها، وزهورها، وثمارها، وغير ذلك، ومثله كثير.
وشمس الدين التبريزي، وجلال الدين الرومي، رسما الصور بالنثر والشعر، وانشدا الأشعار، وتغنا باستخدام الناي، وقد ترجمت أشعارهما وأفكارهما في جميع أنحاء العالم حتى أن أشعار جلال الدين الرومي ما زالت من أكثر الكتب مبيعاً منذ سنوات، وقد قاده تغنيه بحبه إلى ربه وترانيمه إلى ممارسة بعض الحركات التي كانت وما زلنا نشاهدها الآن، مثل الحركات والدوران على نغمات الدفوف، وأصبحت تسمى المولوية نسبة إليه، حيث كان ينعت بمولانا.
دعونا من هذا ولنقلب صفحة نقرأ ونتحدث فيها عن قواعد العشق الأربعين لشمس الدين التبريزي، الدرويش الذي أحبه جلال الدين الرومي، ومنها بتصرف وتعليق قوله، أن البشر يميلون إلى الاستخفاف بما لا يفهمونه، ونحن لدينا مثل يقول: الإنسان عدو ما يجهل. والحقيقة أن البعض من الناس وليس الأغلب لا يجتهدون في فهم ما لا يفهمون، ولهذا فيرون الاستخفاف مبرراً لكسلهم عن الاجتهاد، ويقول تعلمت أن أقبل الشوكة والوردة معاً، مساوئ الحياة ومحاسنها، وهذا تعبير جميل، والرضى والقبول نعمة من نعم الله، والحياة لابد أن يعتريها بعض الكدر، ويقول أيضاً نوع واحد من القذارة لا يمكن غسلها بالماء النقي، وهو لوثة الكراهية والحقد لأن ذلك نابع من تلوث الروح، ويقول عندما ترى أبواب البشر موصدة، فلا يدب اليأس إلى روحك، فإن لله أبوابًا مفتوحة، ويقول إن الزمن لا يمضي بخط مستقيم من الماضي إلى المستقبل، لأن الزمن يتحرك في داخلنا ومن خلالنا، وأنا أقول لو لم وندرك معنى الزمن فليس هناك زمن، يقول أيضاً إن الله جل جلاله يتصف بالكمال، ولهذا فحبه سهل ورائع، أما البشر فهم يرفلون بالنقائض والتباين والتغير، ويقول أيضاً الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من العقل، وقد لا أتفق معه في ذلك فكم من طيب قلب وثق في الناس بقلبه، فغدر به من قربهم، أو أحبهم، ويقول كذلك إن فكرة أننا نستطيع أن نتحكم في حياتنا إذا كانت خياراتنا عقلية فكرة سخيفة، مثل السمكة التي تتحكم في المحيط الذي تعيش فيه، وأقول في الواقع إنه رأي مقنع لكن لابد من استخدام العقل.
مشكلة التبريزي أنه يريد أن يجعل الحب وحده مسيرًا للحياة، وهذا لا يتوافق مع منهج الحياة، وعمارة الأرض، التي أمرنا الله بها، كما أنه يتعارض مع الفطرة الإنسانية.