منصور بن صالح العُمري
حين تدلف أعوامك متثاقلة إلى عتبة الستين فما فوقها، تحمل فوق كاهلك هموم سنوات طوال عشتها، وتعرف أحداثها لحظة لحظة ومن شاركك وقائعها، كما يرهقك حمل تخوف من عمر قادم لا تعرف مداه ولا تدري كنه أحداثه غير أنك تحمل في عقلك مصباح تجارب ينير لك ما ادلهم أمامك من دهاليز مررت بمثلها أو ما يشابهها فتحمل أقدامك لتسير بخبرتك لا بعاطفتك، تمر بك المواقف لتجلسك على عتباتها تلتقط أنفاسك وتستجمع ما بقي من طموحك وآمالك بعد أن تخلف عن مسايرتك العديد من الوجوه التي ألفتها من أحبابك وأصحابك ومعارفك وحتى خصومك وقد ألقوا بأمتعتهم متخففين منها ومتخلين عنها، حيث انتهت بهم طرقاتهم في الدنيا وسلكوا سبيلهم إلى الآخرة.
يتنازعك الشعور بين تطلع إلى ما أمامك من آمال تناديك بصوت ناله الضعف، وبين تصور لموعد لحاقك بمن مضى قبلك أين ومتى وكيف، فتدرك يقيناً أن ما بقي لك لا يماثل ما مضى فلن تعيش عقوداً ستة كالتي خلفتها وراءك، ولن تنعم بذات النشاط الذي تناقص حتى أدركه الوهن، ولن تبني آمالاً لا تملك أدواتها ولن تُشرع لك الفرص أبوابها التي صدئت وتثلمت مفاتيحها.
فما الذي تملكه من أدوات لتبقي على ابتسامتك مشرقة وضميرك مرتاحاً وقلبك مطمئناً؟
الجواب في كف عقلك لو بسطته لرأيته واضحاً جلياً أوضح من خطوط كفيك التي طالما أبصرتها طوال ستة عقود ولو قيل لك ارسمها على ورقة لما استطعت لأنك تراها ولا تلقي لها بالاً وهكذا بقية سبيلك في الحياة تراه في العابرين من حولك ولا تمنحه تدبرك، ألست ترى أن من يتجاهل الجدل مع الآخرين ولو كان محقاً هو من يكسب راحته ولو شعر الآخر بنشوة إفحامه المزعومة، ألست تعاين أن من أحب الخير لغيره هدي إليه، أما ترى أن الغضب وإن كنت تعتقد أنه يلبسك مسوح الهيبة يقضي على راحتك, ألم تقتنع بعد أن العناد ليس دليل حزم وإنما هو خطاب توديع فظ لأحبابك، ألست تجد أن القناعة أغنت من تحلى بها وأن الجشع أفقر الأغنياء، أما وجدت أن التسامح واللين هو أقوى أدواتك التي تبقي من تود صحبته مسايراً لك وإن طال المسير، ألم تتيقن بعد أن ثمار البشر بعيدة المنال منك وأن القطاف الداني منك هو رزق اللطيف الذي يفرح بقدومك إليه ويسعد بنوالك إياه فلم أرك لازلت تقبل بكل حرف تزلف تعلمته لمن لايمنحك شيئاً وتترك من ينعم عليك دون أن تطلبه كيف تبذل أوقاتك لملاطفة من لا يذكر لك جميلاً وتنسى من يضاعف لك ما تقدمه لنفسك. لقد أفنيت عمرك باذلاً كل ما تستطيع لمن حولك وبخاصة من تحب ولعل نفسك أولى بما بقي من عمرك أن تنعم عليها بالهدوء في مواقفك والسكينة في ردود أفعالك والحلم في تلقي ما ينالك فلن يليق بشيبك المنير أن يخوض في تفسيرات سوداء لكل موقف يواجهك ولن يكفي وقود البسمات ليضيء شفاهك إن بذلته لعتابك, عش ماتبقى من سنوات عمرك إيجابياً في تعاملك متسامحاً في خلطتك وقوراً في تصرفاتك حليماً في مواقفك ستجد أن ثمرات هذا التحلي أقوى من نشاط الشباب وأجمل من نضارته، عوّد نفسك أن تمضي بقية طريقك بهذا النهج وإن نسيت لحظة ما فالأوبة تعيدك وتقويك ومن استعان بالله أعانه.