أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أستعمل الفكر الإسلامي على وعي بما يُورد على هذا التعبير من اعتراض غير وارد على وجه الحقيقة، وأُمهِّد لبيان ذلك بملاحظة الفارق بين خطاب شرعي من القرآن أو السنة، وهو بمفردته ومعناها (في مراد الله وعلمه) وحي من عند الله، وهناك فعل بشري في تلقي الخطاب لفهم معناه.. والمعنى الشرعي واحد، والفهم متعدد.. هذه الثنائية حقيقة لا نزاع فيها فيما أعلم، وكلمة «كل مجتهد مصيب» لا تعني أن «كل اجتهاد صوابٌ»؛ إذن الثنائية موجودة.. إلاَّ أن هذه الثنائية ليست شرطاً في كل خطاب شرعي وفهم بشري إلا في حالة أن المجتهد هنا غير مصيب، وترتفع الثنائية إذا كان المجتهد غير مصيب وغير ذي إصابة؛ لأنه اجتهد مع قطعية النص، ولا اجتهاد حينئذ.. وهذه الثنائية ترتفع حينما يكون النص قطعياً دلالة وثبوتاً، ومن ذلك المحكم من آيات القرآن الكريم التي يُرَدُّ إليها وإلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى المتشابه؛ فلا يليق بالمجتهد أن يعقل معنىً آخر غيرَ المعنى الشرعي المحدَّد بطرق الدلالة الشرعية التي نزل بها خطاب الدين الإسلامي.. وأما الخطاب المحتمل الدلالة أو الثبوت أو هما معاً؛ فيكون الفقه فيه فقهاً بشرياً، والفكر فيه فكراً بشرياً.. ولكن يكون الفقه والفكر - وإن تعدَّد المفكِّرون واختلفت أفكارهم - إسلامياً إذا كان الاجتهاد نزيهاً وفق المنهج الذي رسمه الشرع المطهر.
قال أبوعبدالرحمن: أجل إنني أعرف ما يُوْرَد - وهو غير وارد - على التعبير بكلمة «التفكير الإسلامي»، ومن الممكن أن أُعبِّر بكلمة «تفكير المسلم» وأتحاشى الإيراد ونقضه، ولكنني مُلِحٌّ على التعبير الأول، وأنه صحيح بإطلاق، وأنه في حكم «الفقه الإسلامي»، و»عقيدة الإسلام»؛ إذ كل من الفكر والفقه عمل عقلي، والعقيدة عمل قلبي.. ووجه المؤاخذة أن الإسلام وحي من الله، وليس هو فكراً بشرياً يُنسب إلى تفكير البشر.. كما أن أسماء الله سبحانه توقيفية، وليس من أسمائه سبحانه المفكر فينسب الفكر إلى الله بهذا المعنى.
قال أبوعبدالرحمن: التفكير فعل المسلم المجتهد، والإسلام الذي هو دين الله عقيدةً وشريعةً موضوعٌ لتفكير المسلم بعقله، واعتقاده بقلبه.. والتفكير اجتهاد العقل في فهم وحي الله على مراد الله، وقد يصيب، وقد يخطئ؛ وهذا لا يكون في صريح الوحي وصحيحه قطعي الدلالة؛ فنسبة التفكير إلى الإسلام بسببين:
أولهما: أن خطاب الشرع المطهر من الوحيين (المتلوِّ للتعبد، وغير المتلوِّ) موضوع لنظر العقل بتفكيره .
وثانيهما: أن يكون تفكير العقل في فهم الشرع حسب توجيه الشرع نفسه؛ فيكون وفق قوانين لغة العرب رابطة ومفردة وصيغة وجملة، وبمقتضى بلاغة العرب التي دُوِّن علمها، ووفق وظيفة العقل شرعاً بأن يفهم الشرعَ ويمحِّصه دلالة وثبوتاً ثم يذعن له، وأن يستوعب الرجوع إلى موارد الشريعة وفق حاجة الموضوع الذي يبحثه، وأن يكون مخلص العبودية لله في اجتهاده؛ فلا يميلنَّ به تمعلم، وحب ظهور، وحَمِيَّة باطلة، واتباع أهواء.
قال أبو عبدالرحمن: بعد ردود الفعل بين الإسلام وتاريخه، والتاريخ العالمي الحديث بعلمه وفكره وتسلطه استجدت مادة في حقول معارفنا هي «الكتاب الإسلامي»، وهو جزء من عقيدة التوحيد، ولكنه لم ينلْ استقلاله قديماً بالوضعية التي هو عليها الآن؛ لأن أبواب العقيدة كانت عن السمعيات والغيبيات ووحدانية الله سبحانه وكماله وربوبيته وما يقتضيه ذلك من إفراده بالعبودية والنبوة وعصمة الشرع.. ولا يخوض في المباحث التفصيلية عن مسائل الشريعة، وأن الحكم بها هو الأَوْلَى ؛ لأن تاريخ المسلمين يومها لم يعهد مبادئ أو أيديولوجيات تدَّعي أن لها الحق في تنظيم حياة البشر، ولم يوجد عدو يفوقهم عدة ويُحكم الحيلة في فرض ذلك عليهم بخوارج من أبنائهم.. ووجدت نواة في تاريخ المسلمين لإمداد الكتاب الإسلامي، وهي المباحث الأصولية عن المقاصد كما عند الشاطبي رحمه الله، والمباحث الفرعية عن حكمة التشريع كما في كتاب ابن عامر، وابن عبدالسلام والبخاري من أهل القرن الثامن الهجري تقريباً؛ وكتاب الدهلوي، وما هو مبثوث في كتب الفقه.. والكتاب الإسلامي بهذا المعنى يجب أن يُقَيَّد بكلمة «الفكر».. أي الفكر الإسلامي؛ لتخرج المباحث المندرجة في التفسير والحديث والفقه وعلومها، والعقيدة والآداب.. وخِصِّيصة كتاب الفكر الإسلامي أنه مواجهة تفصيلية - في أبواب الفقه مثلاً كمشروعية الطلاق -، وإجمالية عن عصمة الإسلام وخيريَّته.. إنه مواجهة لكل دعوة إلى التماس البديل، أو الاحتيال على التحلل منه بنفاق علمي.
قال أبو عبدالرحمن: إن الثنائية بين الفهم البشري والخطاب الشرعي الذي هو موضوع الفهم: حقيقة تاريخية قائمة على طبيعة البشر - حال النزاهة في التماس الحق - من جهة تفاوت مداركهم؛ لأن القدرات تتفاوت، ومن جهة حضور أو غياب شواهدهم.. وقد عبَّر أهل الكتاب عن هذه الثنائية باللاهوت الديني، واللاهوت الطبيعي.. وهي ثنائية توحي بدينين (دين رباني، ودين بشري).. وواقع ديننا الإسلامي لا يسمح بهذه الثنائية حكماً وإن حضرت وجوداً .. والسرُّ في ذلك أن في الدين قطعيات بصحيح الخطاب وصريحه وشواهد من السيرة العملية لا اختلاف فيها .. وهناك مسائل يسع فيها الاختلاف، ورحمنا الله فلم يتعبدنا فيها باليقين، بل بالرجحان في نظر المجتهد إذا أخلص في طلب الحق بتجرُّدٍ؛ فحال الاختلاف - بالصفة الاجتهادية المذكورة - تكون الإصابة واحدة ؛ لأن الحق واحد، ويكون الآخرون مخطئين إذ لم تحصل لهم الإصابة ولكنهم مصيبون في سلوك المنهج الشرعي؛ لأن لهم أجراً ومعذرة، وهم مطيعون للخطاب الشرعي وإن جانبتهم الإصابة.
قال أبو عبدالرحمن: إذن ثنائية الخطاب والفهم ثنائية وجود لا ثنائية حكم؛ فيكون الحكم أن الفهم خلاف الخطاب، بل الخطاب مطابق للفهم عند من صح علمهم وفهمهم؛ فتوجد حينئذ ثنائية أخرى بين البشر ما بين ذي فهم مطابق وذي فهم مخالف حسب المقاصد - نزاهة، أو تعصباً، أو تضليلاً - وتفاوت المدارك.. والموسوعية اليوم شرط في تحصيل الأهلية للمفكر المعاصر، والموسوعية لا تعني ادعاءَ المتعذِّر (وهو العلم بكل شيء، والتخصص في كل حقل)، وإنما هي تخصص في أكثر من حقل حسب القدرة والاستعداد والهواية، ثم التثقف العام في حقول أُخرى من غير حقول التخصص.. ومن هذا التثقف يولد حقل علمي جديد تخصصي بحت، وهو علم العلاقات والمفارقات بين عدد من العلوم؛ فتكون للمفكر مَلَكة علمية يخدم بها تخصصه.. وهذه الأهلية مطلب ضروري عاجل لمعايشة المسائل الشائكة الحيوية اليومية التي لم يستوعبها بعض علمائنا كما استوعبوا تراثهم؛ بدليل أنهم غارقون فيه، منعزلون عن كل طرح معاصر.. وأريد بالمعايشة معايشة فكرية مؤهَّلة عادلة معيارها قيم الحق والخير والجمال.
قال أبو عبدالرحمن: من تلك المسائل المعاصرة طرح فكر قوميٍّ يُفْرغ العربيَّ من الإسلام الذي هو شرط اعتباره، ويملؤه مسخاً.. وهناك فكر ماركسي مات عملياً ونظرياً، وبقي الولاء له حميةً لماضي المفكر الثقافي وأنفة من التراجع، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
وكتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمِّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -