إذا كان القدماء قد قالوا : «الكتاب من عنوانه» فإنهم عنوا عناية كبيرة بالعنوان ليكون أكثر جاذبية ودلالة، والمعاصرون عدوا العنوان أساساً مهمّاً في بنية النص، بل هو «ترجمان القراءة» كما يقول عبد الحق بلعابد في عنوان كتابه، ولذا أتى العنوان هنا مدهشاً مختزلاً من أحد المقاطع، يتسم بانزياحية ظاهرة في تركيبه الاستعاري، إذ جمع بين لفظتين يخال للقارئ لها لأول وهلة عدم مناسبتهما لاجتماع الحسي، وغير الحسي، بينما هي ميزة النص لهذا التجاذب بين بين لفظة «المتكأ» محسوساً و»الذهول» غير المحسوس، مما يعطينا دلالة وترجماناً عن فحوى النص، بل كانت الصورة موازية للعنوان في الدلالة، فلديّ طفلة لا يتعدى عامها الثاني متكئة على ركام من حطام منزلها المتناثر من جراء ما حدث له، وهي شاخصة البصر تناظر بعينين مذهولتين من الصدمة التي أفقدتها حالة الطمأنينة، من هنا كان إبداع الشاعرة في التوافق الحاصل بين الصورة والعنوان، باعتباره جزءاً من قيمة النص، إذ أضحت هذه العتبة المهمة مدخلاً للنظر للنص وقيمته.
النص يتكون من ثمانية مقاطع، عنيت الشاعرة بها عناية هندسية مختلفة. الأربعة المقاطع الأولى تكونت من أربعة أسطر، كان السطر الأول كلمة واحدة بينما السطر الثاني مكون من كلمتين، أو ثلاث كلمات أحياناً، إذا ما عددنا حرف التشبه في بعضها حرفاً مستقلاً، وحرف الجر أيضاً مستقلاً، ووافقنا على كونهما كلمة - وإن لم يكن كذلك عند النحويين، وعموماً فإن الزيادة والنقصان هما في مصلحة بناء النص إيقاعياً ودلالياً.
وتأتي المقاطع الأربعة الأخريات من ستة أسطر، وتختلف كذلك عدد كلمات أسطرها، ولكنها أربع وأربع، وفي غاية من الضبط مما يوحي للقارئ أن الشاعرة أولت نصها اهتماماً جيداً، ولم يلهها عن هندسة التفكير في معانيه، فهي تنثال انثيالاً عجيباً يؤكد احتشاد الشاعرة له هذا الاحتشاد الذي عُدَّ جزءاً مهماً من إبداع النص.
وأول مقطع يبدأ بالفعل الماضي «نبتت»، وكأن الفعل يحكي حالة ماضية مترسخة في الذهن، وظاهر أن تاء التأنيث تومئ إلى الصورة التي صاحبت العنوان، وكذا ما يوحي به الفعل من حالة الإنبات.. الدال على البهجة والسرور، بل إن التشبيه اللافت «كزنبقة الحقول» وما توحي به لفظة الزنبقة من جمال إلى جانب لفظة الحقول، ربما لاقتران الرائحة التي تدل عليها تلك اللفظة بالحقول.
ثم يأتي المقطع الثاني ليقول: «على ركام الأزمنة»، وكأنه جواب على سؤال مستكن في نفس المبدعة أو القارئ، أين حدث ذلك الإنبات، لتأتي المفارقة من الإنبات إذ تدل على الاختلاف، فلم يكن أرضاً خصبة بل هو «ركام الأزمنة»، وما تدل عليه لفظة ركام من حالة صادمة لما بدأت به الشاعرة، ويؤكد المقطع الثاني أن المقصود هي تلك الطفلة «جلست» ويبدأ المقطع أيضاً بالفعل الماضي المصاحب لتا ء التأنيث, ولكن السطر الثاني يأتي فعلاً مضارعاً «تسدد»، ودلالة التسديد أنها استعدت سابقاً لذلك، لأنها سبق أن جلست لذلك، فيعطي دلالة الإحكام، ولكن التسديد وإن ارتسم في الذاكرة على تسديد الرمي وفوهة البندقية إلا أنه هنا تسديد آخر «من لحاظ الطهر»، ياله من تسديد؟» «اللحاظ» التي عادة ما تكون من لحاظ ولحظات التغزل لأثرها البارع في الناظر، ولكن لئلا يذهب الذهن إلى ذلك أبانت من خلال «الطهر»، إن تلك اللحاظ فيها من النقاء والصفاء البعيد عن الدلالة الأولى للحاظ ما لا يعرفه إلا المتمعن في تلك الصورة الماثلة بين يدي القارئ ليعيد النظر فيها، وفي الوقت نفسه يجد النظر فيها، وفي الوقت نفسه يجد مدى الانكسار في تلك اللحاظ من خلال «ذل الهيمنة» فالذل المصاحب للانكسار ليس ذلاً طبيعياً بل هو نتيجة التسلط المقيت من لدن القوى الغاشمة «الهيمنة» لأن تسلطهم وجبروتهم ما هو إلا زيادة في الإذلال، نظراً لما يملكونه من أدوات التسلط والهيمنة على الضعفاء.
ويأتي المقطع الثالث ليزيد الأمر إيضاحاً أن «مأواها» هو ذلك الحطام في الصورة الموضحة، إنه «مسلوب النوافذ» إذ ما دامت النوافذ مسلوبة من كل مكان فأنى يكون لها مكان، والغريب أنه يختم المقطع بعبارة «مذعنة» إذ لفظة الإذعان نتيجة «الهيمنة» التي وردت، إنه رغم عن كل شيء.
ويأتي المقطع الرابع : بفعل ماضٍ أيضاً «أخرست» بتاء مكسورة، والخطاب ما زال موجهاً لتلك الطفلة المليئة عيونها بحالة من الذعر، ولكن تلك الحالة هي التي «أخرست»، وكأني بالشاعرة من سخطها على واقعها الدال عليه تلك الطفلة، وصفت الأصوات الصامتة التي ملأت الإعلام، الذي أطلقت عليه «أبواق»، التي تدعي ما ليس صحيحاً، لأن صوت الطفلة الذي وصفته يتسم بالمفارقة «صرخات صمتك»، إذ لو لم يكن هذا التناقض لما وصفت الصرخات بالصمت، إذ جمال المعنى ومبناه من هذه الضدية الظاهرة في النص، ثم أتى ختام المقطع بضدية أخرى «معلنة»، وميزة التركيب هنا هو التناقض الظاهر في دلالة الكلمات، الذي هو نتيجة من نتائج تناقض الواقع الذي استطاعت الشاعرة رسم ذلك من خلال هذا التركيب.
وهكذا تمضي المقاطع الأربعة بهذا الأسلوب وبتلك الألفاظ بهذا الأسلوب وبتلك الألفاظ المختارة بعناية من لدن الشاعرة، إذ تعطي التصور عن حالة تلك الطفلة والمآل الذي ينتظرها.
أما المقاطع الأربعة التالية : فتأتي على ستة أسطر - كما أشرت - تبدأ بفعل ماضٍ لتعيدنا إلى العنوان الذي أضحى جزءاً من النص، ولكنها في حالة مختلفة فإن الذهول هنا ناتج من واقعها المر، ولذلك فإن حالة الذهول هنا جعلها تتساءل وتشبهها بالسوسنة، وهنا يستغرب القارئ كيف أتى تشبيهها في البداية «بالزنبقة»، وهنا «بالسوسنة» إذ هي دهن الياسمين، وهذه زهرة مستقلة، جمال وجمال، والحالة تلك وهي «تحتضن»، «دمية» وطبيعي أن تكون خرساء، ولكن خرسها هنا الحالة التي آلت إليها صاحبتها إذ الذهول حالة من حالات الصدمة النفسية تصيب الشخص بالخرس، وعدم القدرة على الكلام، ولكن الخاتمة بكلمة «مؤمنة» قد يكون فيها نوع من النبو لعدم مناسبتها، إلا إذا كانت الشاعرة تروم من التسليم بالوضع الذي آلت إليه.
ويأتي المقطع التالي بدعوة آمرة، ثم يأتي الأمر التالي أيضاً «إصفعيهم» وما للكلمة من قوة وأثر، إلا أن الصفع هنا لم يكن بآلة قوية بل بأمر آخر قد يؤثر إلا في أصحاب القلوب الحية، والندى، لذ أنظر إلى «البراءة، والندى» أي أثر يكون لهما، لذا كانت المفارقة بين الصفع «والآلة المصفوع بها، ثم أيضاً المفارقة في النتيجة» يأبى اختناق الأمكنة».
وتعود إلى واقع عالمها المليء بالتناقضات لتبدأ المقطع الخامس بالفعل الماضي ولتجعل تلك الطفلة المتكئة المذهولة مفعولاً بها دوماً وإن كان الأصل في النصب التذكاري لاستعادة المجد والقوة والذكرى الجميلة، إلا أنه هنا وضعوه صورة وتمثالاً ومثالاً لخزيهم، وما تحمله لفظة «الخزي» من وصمة العار في الدلالة واقعاً وذاكرة، والأمر جلي وواضح لأنهم «خانوا الطفولة»، بدليل هذا التشرد، وجعلت من لفظة ختام المقطع صورة استعارية، جعلت من هذا الخيال أكثر عمقاً وأثراً «مثخنة» والأصل أن المثخن من كثرة فيه الجراح فلا يستطيع حراكاً لما آلت إليه حاله.
ويأتي المقطع السادس : ليكون خاتمة لتلك الصورة المأساوية الذي صارت إليه، وزيادة في تقريع من توارى عن الانتصار لتلك الطفلة المذهولة، ذات الزوايا المذعنة، ودميتها التي تحتضنها، وأماكنها المختنقة، المثخنة «تركوا الدمار كمرسم»، آثار المصائب وكثرتها وتتابعها، وحالة الطفلة «كمرسم»، واللوحة التي وضعت في «برواز محتوية صورة تلك الطفلة ستسلب ما تبقى من غثاء «الأنسنة»، وكانت لفظة غثاء مناسبة للفظة التالية، إذ ادعاء الأنسنة من كل من يحيط بها أضحى من كثرته غثاءً لا قيمة له.
وهكذا تسير هذه القصيدة في إيقاع متشابه وإن اختلفت مقاطعها، وألفاظ أسطرها، إلا أن نغمها الإيقاعي متزن لا يكاد يخرج أي مقطع أو أي سطر عن المسار العام لكل القصيدة.
** **
أ.د. عبدالله إبراهيم الزهراني - جامعة أم القرى