العقيد م. محمد بن فراج الشهري
إن المفارقة التي تعيشها الحضارة الإنسانية غريبة الطبع والأطوار، غرب يتحول إلى غول يريد التهام الحجر والبشر، والتحكم في الرقاب والعباد، وينشر حروبه البيولوجية في سياق الصراع بين القوى العظمى، أسفر سابقاً عن الحربين العالميتين الأولى والثانية بما خلفتاه من مآسٍ تضرب القيم الإنسانية في الصميم، لكن جشع هذه القوى ازداد لتخلق في الألفية الثالثة جائحة كوفيد 19، والتي قلبت الموازين في الاقتصادات والعلاقات الاجتماعية، في القيم الإنسانية والتأثير على العقلانية، وأسهمت في تغيير وجه السلطة من الديمقراطية إلى سلطة مستبدة، وضاعت الحقوق بل تمت إقامة صلاة الغائب عليها دون رحمة، وتفرقت الأمم والشعوب داخل الخريطة الجغرافية نفسها، وانتصر الموت في دواليب الحياة.
إنها حرب قائدها تكنولوجيا المعرفة وجيشها داخل نسق اجتماعي متطور ويتسم بدينامية فعالة وحيوية دائمة.
التقنية ودورها في شيوع المعرفة
وتشكل شبكة الإنترنت نتيجة منطقية للتطور الهائل في مجال تكنولوجيا المعلومات، ذلك أنها من الوسائل التي لعبت دوراً مهمّاً في ترويج المعرفة وإشاعتها بشكل واسع بين دول المعمورة، لكونها آلية من آليات تبادل الخبرات والتجارب وتمتين العلاقات التواصلية بين الشعوب والأمم، كما أصبحت مرجعاً أساسياً في البحث المعرفي والثقافي، وهيمنت على الحياة العامة للناس، مؤسسة بذلك أفقاً جديداً من آفاق الاتصال والتفاعل، بل يمكن اعتبارها مستودع المعارف والمعطيات المرتبطة بمجالات العلم والمعرفة، وتحوّلت إلى قبلة لطالبي العلم والباحثين والأساتذة وللمستعملين العاديين لها، فكل واحد منهم يبحث عن مساعيه العلمية والخدمات المألوفة. ولا أبلغ من هذا أن هذا الاختراع حوّل العالم إلى قرية صغيرة، بل إن الناس قاطبة كسرت الحدود المصطنعة والمتاريس المفتعلة بين أفراد المجتمع الدولي من خلال الاختراق القوي للمنازل والأمكنة التي لم تكن تخطر على بال. أضف إلى هذا أن هذه الشبكة العنكبوتية فضاء للتعبير عن الجيد والرديء في كل ما يُعرض فيها من أفكار وتصورات ورؤى تختلف باختلاف الأمم والشعوب والأهواء والرغبات، لكن الكل يلتقي في نقطة واحدة تكمن في العيش الافتراضي. ووسيلة شملت كل مناحي الحياة من مؤسسات اقتصادية وتعليمية وثقافية وتجارية، إنه الجسر الذي يربط قبائل العالم ومدنه وقراه الجغرافيا المترامية الأطراف.
إن التكنولوجيا الحديثة أتاحت للإنسان فرصاً عديدة للانفتاح على الآخر والاطلاع على كل المستجدات في جميع المجالات، في «الإنترنت» صارت ذاكرة الإنسان وعن طريقها يتم الوصول إلى المعرفة بشكل ميسر وسهل للغاية، خصوصاً في ظل هذه الطفرة النوعية للمعلومات التي غزت وتغلغلت في كل شيء. وهذا ما تؤكده الدراسات المختصة من خلال الإشارة إلى الانتشار الهائل للمعلومة، مما يطرح العديد من التساؤلات المرتبطة بما تحمله هذه التطورات السريعة للتقنية الحديثة، أولها كيف يمكن للإنسانية مواكبة هذا التقدم التكنولوجي؟
الواقع الافتراضي وعزلة الإنسان
إن العالم انتقل من وضعه الواقعي إلى وضع افتراضي متسيد وقائم الذات، الأمر الذي انعكس سلباً على الأفراد الذين نزحوا صوب العزلة القاتلة مما أفضى إلى التباس وغموض الواقع المعيش مما يطرح الجدوى من التقنية إذا كانت تفرز واقعاً آخر مناقضاً لحقيقة الواقع الفعلي، ومن ثم يكون إلا معنى هو هوية عالم متغير ومتحول بطريقة سريعة ومفاجئة في آن، والمرآة التي تنعكس عليها صورة مجتمعات موكوله لجغرافية افتراضية توهم بالحقيقة، رغم أن جوهرها في الكثير من المفارقات والتنابذات والتجاذبات المقلقة والمحيرة في ظل وقوع الإنسان المعاصر في فخ الإنترنت.
فالإنسان، في سياق هذه الثورة المعلوماتية، لم تعد له القدرة على استيعاب ما يجري من تطورات، ليعيش رهين ثقافة استهلاكية أثرت على كينونته، التي غدت حبيسة التافه والعابر والمبتذل، في الوقت الذي تم وضع الثقافة بين كماشة الثنائيات المؤلمة في عمقها بين الواقعي والافتراضي، بين الجودة والرداءة، بين العميق والضحل، بين النفيس والبخس، لتسقط في شرك الدوران في هذه العوالم والثقافة باعتبارها نسقاً متكاملاً ومتداخلاً من الروابط والتصورات والرؤى والعلامات والسنن تعيش اليوم وضعية التشظي بين الورقي والرقمي، وما يعرفه سوق القراءة من كساد وخسائر يثيران الخوف من مستقبل الكتاب الورقي ويكشفان عن حقيقة الكل يتغاضى عنها المتجلية في اكتساح العالم الرقمي لمجال الكتاب.
على سبيل النهاية
إن هذا الوضع الجديد يفرض على المثقفين إعادة النظر في علاقتهم بالكتاب من حيث الترويج والانتشار، خصوصاً أن أرقام المبيعات تعري الوجه السلبي لفعل القراءة. فواقع الارتكاس القرائي لا يعني التنصل من الكتاب الورقي، ولكن هو دعوة للتفكير في آليات جديدة تتماشى والهيمنة للعصر الرقمي وما يطلبه مجتمع المعرفة.