سلمان بن محمد العُمري
غيّب الموت الأديب الأريب ذا الإحساس المرهف الشيخ إبراهيم بن ناصر بن مدلج المدلج المكنى: «أبو حافظ»، عن عمر ناهز التسعين عاماً قضاها في خدمة دينه ووطنه.
وقد ولد الشيخ إبراهيم سنة 1355هـ في حرمة وختم القرآن الكريم، وتعلم القراءة والكتابة في كتابها الأهلي، وبعد أن افتتحت مدرسة حرمة أخذ الابتدائية منها سنة 1372هـ، ثم التحق بمعهد المجمعة العلمي عند افتتاحه عام 1374هـ، وقطع الدراسة عام 1377هـ لانشغاله بالوظيفة إلاَّ أنه حصل على شهادة المعهد العلمي السعودي عام 1380هـ منتسباً، كما انتسب لكلية اللغة العربية بالرياض وأكمل تعليمه العالي.
التقيت الشيخ إبراهيم المدلج لأول مرة عند التحاقي بالعمل الحكومي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكان وقتها يعمل مديراً لإدارة الميزانية والتخطيط، وكنت ممن ارتاحت له نفسي عند دخولي الجامعة، وتوطدت العلاقة معه واستمرت حتى وصل لمنصب وكيل الجامعة للشؤون الإدارية والخدمات، وعلى الرغم من أنه لم يحمل شهادات دراسية عليا إلا أنه يفوق بعض أصحاب الشهادات العليا علماً وخلقاً وحسن تعامل، وطيبة قلب؛ فهو في كل ميدان فارس فى حقل التربية والتعليم، والعلوم الشرعية واللغة العربية، وفي الشؤون الإدارية والأنظمة، والشأنين الاجتماعي والوطنى، وكذلك المجال الرياضي الذى عشقه منذ صغره وأسهم في تأسيسه نادي الفيصلي بحرمة بسدير «شباب حرمة» قديماً، وقد أسسه مع أخيه مدلج (رحمه الله) الذي كان له تأثير على توجهه وعلى دفعه إلى النشاط الاجتماعي في بلدتهم، وعندما أنشأوا النادي، لم يكن فيها بيت يستوعب الحفلات والندوات، فقد كانوا يقيمون الندوات في ساحة البيع والشراء بين الدكاكين، وكانت صورة رائعة لتكاتف أهل البلد، تأتي الفرش من هذه البيوت، وتأتي المداخن من البيوت الأخرى، وتأتي الأباريق والدلال، وتولى رئاسته منذ إنشائه عام 1377هـ إلى 1383هـ، و لطالما حدثني عن مسيرة النادي ومناشطه المتعددة ذاكراً الكثير ممن رافقوه في بدايات التأسيس، مثنياً على شباب بلدته ومحفزاً ومشجعاً لهم، وكذلك دورهم في إنشاء المكتبة العصرية بحرمة، ولم يخفِ حبه وتشجيعه لنادي الهلال، وكان كثيراً ما يحدثني عن جيل الهلال في ذلك الوقت بقيادة مبارك عبدالكريم- رحمهم الله-.
عمل منذ ريعان شبابه في مجال التعليم وكان من أبرز تلاميذه معالي الدكتور عبدالله التركي، ثم كان الانتقال إلى معهد العاصمة النموذجي، مع المربي عثمان الصالح، -، وعند تأسيس جامعة الإمام انتقل للعمل فيها حتى وصل لمنصب وكيل الجامعة للخدمات الإدارية، وبعد تقاعده من الجامعة عمل في وزارة الشؤون الإسلامية كمستشار خبير ومديرٍ لمكتب الوزير فترة من الزمن حتى ترك العمل بعدها.
«أبو حافظ» في مسيرته العملية يمكن أن يطلق عليه «رجل المهام الصعبة»، لمن تعامل معه من كبار المسؤولين والموظفين لرجاحة عقله، وحصافته في معالجة المشكلات، والخبير المعطاء في رسم الخطط والاستراتيجيات بكل هدوء ورزانة، وتعامل حسن مع الجميع.
أصدقكم القول إنني لم أعرف شيئاً اسمه «حرمة» ولكن مع أبي حافظ العاشق المتيم ببلدته وتاريخها وناسها عرفت الكثير عنها ورجالاتها الأخيار والفضلاء، وحرص ذات يوم على مرافقته لتلك المدينة الهادئة «حرمة» للتعرف عليها عن قرب، متجولين في البلدة القديمة في أزقتها، مع الشرح الجميل غير الممل عن بعض الذكريات والمواقف لأهلها وناسها، وقد إغرورقت عيناه وهو يتحدث عن بلدته التي أحبها وأحبته.
إن شريط الذكريات مليء مع «أبي حافظ» الذي رافقته فى الحضر والسفر، ووجدت فيه نعم المعلم الموجه، والصاحب الوفي، والمحفز المشجع الداعم للعاملين المجدين المخلصين.
عندما بشرته بقدوم الابن «ريان» لهذه الدنيا، وجدت الفرح والسرور يعلو محياه، وكأن القادم ابنه مهللاً مستبشراً، وكتب في حينها أبيات... أذكر منها:
أهلاً وفدت مباركاً ريان
ويقر عينا بيننا سلمان
للأدب قصة وشعراً حكايات كثيرة؛ فعلى الرغم من إنتاجه الأدبى الغزير وبالذات في الشعر العربى الفصيح والشعبي إلا أنه كان مقلاً في النشر، وإن كانت له بعض القصائد الشعبية التي كتبها باسم «هائم»، وكذلك «أبو حافظ»، وأمام حبى لطيب القلب «أبو حافظ» حرصت كثيراً على أن أتولى النشر له في وسائل الإعلام وبالذات فى الصحف والمجلات في داخل المملكة وخارجها، وكان شكوراً مثنياً على إلحاحي له بالكتابة، ولازلت أتذكر مقولته لي عدة مرات «أنت الوقود المحفز» لمواصلة الكتابة الشعرية.
قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً كنت من العاملين في مجلة اليمامة في عهدها الزاهر، وأشرف على عدد من الصفحات كصفحة «صوت المواطن»، و»رحاب الإيمان»، وخصصت زاوية أسبوعية لأبي حافظ عبارة عن رباعيات يكتب فيها عن كل مدينة من مدينة من بلادنا الغالية، أو معلم من معاملها الرئيسية، وكذلك زاوية أخرى بعنوان: «ومضات إيمانية»، الرباعيات التي توالى نشرها عبر ثلاث سنوات في اليمامة، كانت تتضمن بعض التعبير عن نهضتنا، سواء العمرانية أو التعليمية أو الاجتماعية؛ وكذلك كانت تلقي بعض الضوء على بعض مدننا الغالية، وعلمت فيما بعد أنها ظهرت في كتاب، ولم أطلع عليه حتى الآن، وبحسب حديث المرحوم إبراهيم المدلج معي أنه أشار إلى قصة فكرة إصدار الكتاب مع الإشارة إلى جهودي بذلك، ولكن من كتب مقدمة الإصدار قال: يكتفى بالمشرف على الصفحة بمجلة اليمامة، دون ذكر اسمي. وحدثني-رحمه الله - ممتعظاً ومستاءً من ذلك.
ولم أستغرب ذلك التصرف لأنه سبق وأن أعددت كتاباً بعنوان: «العنف فى العمل الإسلامي المعاصر» مع الزميل/ منذر الأسعد، ونسب العمل إلى مركز البحوث والدراسات الإسلامية، ولم يذكر اسم المعد..، ووقتها أكد مدير المركز الزميل د.مساعد الحديثي استياءه من ذلك التصرف، وأن صاحب القرار هو من حذف ذلك، وقدم لي مبلغ ألف ريال كمكافأة لهذا العمل، رفضت استلامها لعلها تصل إلى من هضم الحق الأدبى.
أسأل الله العلي القدير أن يغفر لشيخنا الفاضل إبراهيم المدلج ويسكنه ووالدينا وجميع أحبابنا فسيح جناته، وعزاؤنا لأخي العزيز د.حافظ وإخوانه وأخواته وأسرة المدلج عموماً، وأهل حرمة نعزيهم بابنهم البار بها.