د.عبدالله بن موسى الطاير
قال مسؤول أوروبي إن منصات وسائل التواصل الاجتماعي من المحتمل أن تغلق عندما لا تتخذ إجراءات صارمة ضد المحتوى المثير للمشاكل أثناء أعمال الشغب في دول الاتحاد الأوروبي. إنها واقعية سياسة أملتها «المشاكل»، وهي تصادم مفهوم الدول الغربية لحرية التعبير. التنظير جيد ومثالي، ولكن عندما تواجه تلك الدول تهديدات فإنها تتنصل من المثالية وتنحر حقوق الإنسان على مقصلة المصالح الوطنية. حرية تعبير الناس عن أفكارهم وآرائهم دون خوف يمثل حجر الأساس في المجتمعات الديمقراطية، ولكن المتابع لهذا الشأن يعرف أن تلك الحريات مرهونة باستقرار الأوضاع وازدهار المجتمعات.
الإسلام له منظور دقيق حول حرية التعبير يوازن بين المثالية ومتطلبات الأوضاع الراهنة، إذ يأخذ في الاعتبار السلم الاجتماعي، فهو يشجع حرية التعبير وتبادل الأفكار في ضوء مبادئ توجيهية أخلاقية، ويقر قيوداً على حرية التعبير لحماية الصالح العام ومنع الضرر. ويمكن القول إن الإسلام يضع حرية التعبير والمسؤولية والمساءلة على قدم المساواة، وهو ما يغيب تماماً عن حرية التعبير في المجتمعات الديموقراطية الغربية. الإسلام يشدد على توظيف حرية التعبير لأغراض بناءة كإقامة العدل، وتجنب الإضرار بالأفراد أو المجتمع، كما يشجع التبادل السلمي للأفكار، وفي الوقت ذاته يحرم ويجرم استخدام حرية التعبير لنشر الأكاذيب والافتراء والقذف أو الترويج للكراهية والعنف، ويعتبر حرية التعبير التي تحرض على القلاقل أو تعطيل النظام العام أو تؤدي إلى تدهور المجتمع ضرراً مداناً يستوجب المحاكمة والردع. ويولي الإسلام أهمية خاصة للمحافظة على الأعراض، والشرف، والخصوصيات، وهي ما يتم التساهل فيه إلى حدٍّ بعيد في الفهم الغربي لحقوق الإنسان.
تنظر أغلبية دول العالم إلى أن حرية التعبير هي مجرد أداة غربية مصممة لفرض مصالحه وتعزيز قيمه وأجنداته، ومع أن المبدأ يتجاوز الحدود الثقافية وله أهمية عالمية، فإن لوجهة النظر هذه ما يبررها في المعايير المزدوجة والانتقائية في تطبيقات حرية التعبير.
من الواجب الاعتراف بأن تنفيذ وتفسير حرية التعبير يمكن أن يختلف باختلاف البلدان والسياقات الثقافية والأحداث الجارية، فلكل مجتمع أطره القانونية الخاصة والمعايير الثقافية التي تشكل حدود وقيود حرية التعبير؛ في حين الدول الغربية تعطي الأولوية للحريات الفردية وتسمح بمزيد من حقوق التعبير الموسعة والعبثية، تعطي مجتمعات أخرى الأولوية للتناغم المجتمعي، والأمن القومي، والحساسية الثقافية.
من الظلم أن يواصل المجتمع الدولي دعم آليات ومبادرات أجهزة الأمم المتحدة المعنية بحرية التعبير في حين لا تعترف تلك الأجهزة سوى بمفهوم أحادي لحريات التعبير، ولا تأخذ في الحسبان وجهة نظر عدد معتبر من دول العالم منها العالم الإسلامي واثنتان من أعضاء مجلس الأمن دائمي العضوية.
دول العالم تنخرط كافة في تقديم الدعم المالي لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، واليونسكو، ومجلس حقوق الإنسان، التي تعمل على قضايا حرية التعبير، وتشارك تلك الدول بفعالية في المناقشات والمفاوضات لتطوير السياسات والمبادئ التوجيهية والمعايير المتعلقة بحرية التعبير، وتسهم في تقارير المراقبة التي يعدها مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، والمقررين الخاصين، واليونسكو عن حالة حرية التعبير في مختلف البلدان، ودائماً ما تكون 153 دولة تحت مطرقة نحو 40 دولة «ديموقراطية»، بمعنى أن الإيجابية التي تتفاعل بها دول العالم مع مبدأ حقوق الإنسان لا تجد تقديرها إذا خالفت الفهم الغربي.
لقد أظهر التصويت في مجلس حقوق الإنسان على مشروع القرار الذي تقدمت به باكستان نيابة عن منظمة التعاون الإسلامي لإدانة أعمال الكراهية الدينية مثل حرق المصحف الشريف فجاجة الدول الغربية الأعضاء في المجلس، حيث عارضته جميعها رغم اعتماده بأغلبية 28 صوتاً في مقابل 12 صوتاً رافضاً و7 أصوات اختارت عدم التصويت ليس من ضمنها دولة غربية واحدة، لتعيد التأكيد على اصطفافها وراء فهمها الخاص على حساب الشركاء.
القرار رغم أهميته، وصوته المدوي الذي قرع به آذان الغرب، لا يختلف عن بقية القرارات التي يتخذها مجلس حقوق الإنسان في عدم إلزاميته للدول الأعضاء، مع تمتعه بثقل معنوي وسياسي كبير تراعيه الدول الأعضاء وتحترمه طوعاً.
عدل كفة مجلس حقوق الإنسان، يتطلب عملاً دؤوباً، في ظل هذه اليقظة المتأخرة لغالبية دول العالم، من أجل إعادة تعريف مفهوم حق التعبير، بما يراعي فهم ومصالح 57 دولة إسلامية أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي ومن يتشارك معها الفكر، ويأخذ في الاعتبار مصالح قوتين عظميين مهمتين هما الصين وروسيا. استمرار الحال على ما هو عليه ليس غير اتصال الاستعمار الثقافي للآخرين ومصادرة حقهم في الاختلاف، وتكريس لدكتاتورية حرية التعبير.