رضا إبراهيم
في كتابه الموسوم بـ(العقل واللغة والمجتمع الفلسفة في العالم الواقعي) الصادر عام 2011م أشار الفيلسوف والكاتب الأمريكي جون روجرز سورل إلى أن اللغة تقع في مقدمة المزايا البشرية، مؤكداً على أن اللغة هي «مؤسسة إنسانية»، حيث إن كافة متطلبات الحياة تتطلب وجود اللغة، أو على أقل تقدير تتطلب أشكالاً من الإيحاءات والرموز الشبيهة باللغة، بينما لا تحتاج اللغة في وجودها إلى أية مؤسسات أخرى.
وعلي غرار ما أكده سورل، جاءت تأكيدات العديد من أقرانه، فنرى تأكيدات باحث اللسانيات البريطاني نيكولاس أوستلر على أن اللغة هي اللاعب الحقيقي في التاريخ العالمي، وليس أمراً آخر، كما أكد عالم اللغة المعاصر الأمريكي نعوم تشومسكي على أن دراسة اللغة مرتبطة بدراسة الفكر البشري، لأن اللغة تفرض بشكل أو بآخر على الإنسان طريقة التفكير.
وعن الدراسات الفلسفية للغة، فيمكن مقاربتها من عدة أوجه، فأحد التصنيفات المفيدة للمقاربات يُقسم دراسة اللغة إلى (النحو) وهو المعروف بـ»الإعراب»، الذي يدرس علاقة الرموز اللغوية مع بعضها وبين بنية الجملة، وهناك علم «الدلالة» الذي يقوم بدراسة علاقة الرموز اللغوية بالواقع، وهناك علم «المقامية» المعروف بـ»الذرائع» الذي يقوم بدراسة العلاقة بين العلامات اللسانية وبين مستخدمها الإنسان، علماً بأن أهم مفهوم بفلسفة اللغة هو مفهوم المعنى.
ومن المعلوم أن اللغة تميز الإنسان عن الحيوان، حيث إنها (بنت الفكر) إذ إن الإنسان يعي ما يقوله، وذلك على عكس الحيوان حتى وإن امتلك أعضاء النطق، ويُعد سلوك استخدام اللغة من أكثر سلوكيات الإنسان من نواحي التعقيد والبراعة، ما تمنحه الكثير من المفاتيح، ليس لمعرفة كيفية عمل العقل فقط، بل وعن العقلانية وإتباع القواعد وغيرها من الأمور الفلسفية الأساسية.
كما أن علم اللغة المعروف بـ(اللسانيات) قدم كميات لا حصر لها من المواد لزوم التفكر الفلسفي، ومثلما الحال في فلسفة العقل، فقد جاء التحفيز من التطورات في العلم، ولكن في الوقت نفسه من الصعوبة القول، فيما إذا كان العمل الذي يخوض بشكل كبير في مجالات متعددة، قد يُعد ضمن الفلسفة أم ضمن اللسانيات.
واللغة من أهم العلامات المميزة لذات الإنسان، وبمثابة وعاء لأداة فكر الإنسان، واللغة هي جسد التفكير ولا يمكن فصلهما، فلا يمكن فصل النفس عن الجسم دون القضاء عليهما معاً، كما أنها في ذات الوقت (إنجاز تراكمي) تقوم عليه الحياة الاجتماعية كافة، ومكون بنيوي لمكونات الإنسان، وهي أداة اتصالية تستبطن قوة غير محدودة للتغيير، وديمومة أصيلة لإعادة تشكيل الحياة. وبالنظر إلى كونها مؤسسة إنسانية على الدخول بفاعلية في أي علاقة ثنائية، فهي عضوية بالضرورة، ويصعب بموجبه قياس ما أسهمت به اللغة في تكوين الإنسان، وما أسهم من خلاله الإنسان بتكوين اللغة، وحالة تقصي الأثر الذي أحدثه الإنسان في اللغة، إذ لم يكن له أي وجود قبلها، فلا يمكن تخيله في حالة انفصال عنها، كونها تعرفه أكثر مما يعرفها هو، أي أن اللغة والإنسان على علاقة ثنائية وارتباطات أبدية.
ومن المؤكد أن الإنسان البدائي منذ أن قام بالنقش على الحجر، لعب دوراً كبيراً في تطور اللغة، وحتى ظهور التقنيات الحالية وما فيها من تطورات، ففي المجالات الإعلامية اتحدت لغة الإعلام مع الوظيفة اللغوية لحد التطابق، بمجرد اهتداء الإنسان إلى اللغة، ما يدل على أن الإعلام الذي بدأ باعتباره جزءًا من اللغة، أراد من خلال عمله أن يكوّنها، ما يعني أن الإعلام بدوره يمتلك القوة التكوينية للارتباط بكل الظواهر الإنسانية، منذ أن فكر في مبتغياته الإعلامية، لما تحمله اللغة من معرفة يفترض إيصالها أو إعلام الآخر بها.
هذا بجانب أدلة أخرى تشير إلى أن اللغة نشأت بمكان ما، جنوب الصحراء الكبرى بإفريقيا بمنتصف العصر الحجري، والمتزامنة مع فترة ظهور الإنسان العاقل، ويوافق اللغويين على أنه لا يوجد هناك لغة بدائية بخلاف اللغة البسيطة، وأن جميع اللغات المتحدثة من قبل المجموعات البشرية الحديثة ذات دلالات تعبيرية متماثلة، على الرغم من أن هناك بعض الدراسات الحديثة، توصلت إلى أن التعقيدات اللغوية تختلف في اللغة ذاتها، وتختلف فيما بين اللغات الأخرى على مر الأزمنة.
واللغة عبارة عن منظومة من الجمل غير المتناهية، يصوغها الإنسان من مادة لغته المحدودة، مع الأخذ بعين الاعتبار في هذا السياق حقيقة وجود عدد محدد من الحروف الهجائية، وبها يمكن تأليف ما لا نهاية من ألفاظ وعبارات وجُمل، كما أن الجُمل الغامضة أو ذات أكثر من معنى تكون على جانب كبير من الأهمية من الناحيتين اللغوية والنفسية، وباتت تمثل العلاقة بين كلا الأفكار والجمل المشكلة الرئيسة لعلم اللغة النفسي، أي انها معضلة المعنى.
كما أن علم الدلالة يعتمد تفسير جمل معينة على مبناها النحوي من جهة، ومعنى كل عنصر في الجمل من الجهة الثانية، إذ إن معاجم اللغات البشرية كلها ليست كاملة ولا تدل على مبنى اللغة وفلسفتها، فنجد أن لغة الطفل من خلال التعريف اللغوي الحديث، هي التي يستعملها الطفل مع الآخرين، سواءً كانوا صغارا أم كبارا، وكذلك لغة الآخرين معه، ثم لغة الطفل مع نفسه.
ويظهر تاريخ الأديان دون أدنى شك، مدى توظيف الديانات للغة بمعناها الإعلامي، كما تكشف حقيقة التقنية عن علاقة أبوية بين المؤسسات العسكرية والخطاب الإعلامي، بما تتضمنه تلك العلاقة من تطابق مقصود بين كلا الحرب والإعلام أو ما يعرف بـ(حرب المعلومات) والتصاق الإعلام بكل ما ترتبط به اللغة، مثل مفاهيم الهوية وما إلى ذلك، ما يعني أن وجود اللغة الذي حتم توليد مفاهيم التلقي وبيئاته المتنوعة الأشكال، قد فرض بأشكال عدة شروطا ومستوجبات إنتاجها.
وقد تطرق علم النفس اللساني إلى اللغة البشرية الطبيعية، بوصفها ظاهرة نفسية ذات صلات بأغوار أخرى في النفس البشرية، فمن تعريفات هذا العلم الشائعة كانت دراسة اللغة الإنسانية فهماً وإنتاجاً واكتساباً، ويُعد هذا العلم من أحدث الفروع اللغوية المعاصرة، وتعود بدايته إلى منتصف القرن العشرين بالولايات المتحدة، وسرعان ما عم وانتشر عالمياً.
ويرى كثير من اللغويين الخبراء طويلي الباع بنفس المجال، أن لظهور النظرية التوليدية التحويلية باللغة لدى اللغوي الشهير ناعوم تشومسكي كان الفضل في نشأة علم اللغة النفسي، الذي يبحث في العلاقة ما بين اللغة والعقل البشري، فتلك النظرية هي التي بحثت مبنيي الجملة سواءً العميق أو السطحي، وعقدت الصلة بين التحليل اللغوي وبين نظرية التعلم والمعلومات، وتشومسكي يؤكد مثلاً على أن العلاقة الشرطية بين المثير والاستجابة، غير صالحة لتفسير قدرة الفرد على التكلم، وفي اعتقاده أن لدى الطفل ملكة أو قدرة أو قابلية فطرية، هي التي تعينه على تعلم اللغة.
والمعلوم أن اللغة لا تعبر عن التواصل والأفكار فقط، بل تعبر عن العواطف والرغبات والأهداف وأمور أخرى من الصعب حصرها، تتسم بالعمق كذلك، ففي سن الثامنة من عمره قد يصل الطفل عادةً إلى مستوى الراشدين من حيث النطق، وفي سن العاشرة من عمره قد يصبح مستوى النحو لدى الفتى ناضجاً على غرار البالغين، وبمجال الألفاظ الدلالية أو المعجم تستمر عملية التعلم والنمو والتطوير حتى نهاية العمر.
وقد أظهرت بعض الاختبارات أن تعلم عدة لغات بالسنوات العشر الأولى من العمر، يعرقل النمو الفكري، لذا يفضل اكتساب اللغة الأم، والتمكن منها أولاً، وبعد ذلك يمكن الشروع بتعلم لغات أخرى، كما وجدت العديد من النظريات والآراء، بصدد وجود علاقة ما أو عدمها بين اللغة وبين الفكر، فمنها ما تؤكد على أنهما منفصلان وأن للفكر الأسبقية، ومنها ما تؤكد على أنهما مرتبطان معاً، إذ إن اللغة تبلور الفكر، وترسم حدوده التي يسير عليها.
ومن خلال السماع وتكوين قواعد اللغة والقياس عليها لاحقاً، فقد يطلق عادةً على هذه الفطرة أو ملكة اللغة بالقوة، اسم نظرية فطرية للقواعد اللغوية العالمية بمخ الطفل، وجرى تسميتها من قبل الخبراء اللغويين بـ(أداة جهاز اكتساب اللغة) والمتشكل بالسنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، فهو يولد مبرمجاً مثل الحاسوب بالآلية الرئيسية المشتركة لدى البشر على وجه العموم.
وتلك الآلية تولد بالسنوات الأولى للطفل بما يمكن تسميته بالقواعد الداخلية، ففي سن السادسة على وجه التقريب، يكون الطفل قد سيطر على مبادئ لغته، وبهذا الإنجاز تتحقق مرحلة مهمة جداً من التطور النفسي لدي ذلك الطفل، كما توجد بعض أوجه الشبه بين الوضع الذي يتعلم فيه الطفل الكلام، وبين اللغوي الباحث في اللغة.