الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
من المهام الرئيسة للوقف في الإسلام سد الاحتياجات، وإعطاء الأمل للمحتاج، وحماية المجتمع والتماسك بين أفراده، وتوطيد العلاقات والتعاون على البر والتقوى، وتحقيق التكافل الاجتماعي.
وفي العصر الحاضر تشتد الحاجة إلى توجه الأوقاف إلى تخصيص الجزء الأكبر من ريعها في بناء الإنسان لتحرير عقله من الجهل، وتحرير جيبه من الفقر، وتحرير قلبه من الخرافة، وجسده من المرض.
«الجزيرة» طرحت تلك التساؤلات على المختصين في العلوم الشرعية حول كيفية تحقيق ذلك المنهج الإسلامي النبيل في المجتمع؛ فماذا قالوا؟
فضل الوقف
بدأ الشيخ عبدالله بن صالح العبيلان مفوض الإفتاء بمنطقة حائل سابقاً بقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله «(وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم، (وَآثَارَهُمْ) وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر».
لقد أكرم الله تعالى الإنسان بالاهتداء إلى الفضائل، والارتقاء في المحاسن، واختيار ما ينفعه في حياته وبعد وفاته، ومن ذلك الوقف الخيري الذي يدوم أصله ويصرف ريعه في أوجه البر والخير، ومن خلال ذلك يتجدد الثواب للواقف على مر الزمان، وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». والوقف هو: حبس أصل مالي وتسبيل منفعته للفقراء أو المساجد أو غير ذلك من أوجه الخير، وباب الوقف واسع، فيصح أن يوقف الشخص: مالاً معيناً، سواءً كان منقولاً، أو عقاراً، أو صكوكاً، أو أسهماً، أو حصصاً، أو أوراقاً مالية، أو اسماً تجارياً، أو حقاً من حقوق الملكية الفكرية، أو أي مال آخر يصح الانتفاع به، وقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- سبعة حوائط بالمدينة «كما في تاريخ المدينة لابن شبة 1/175»، ورغّب الصحابة -رضوان الله عليهم - في المسارعة في نيل الأجر فاستجابوا له؛ وذلك لما في الوقف من المصلحة للواقف وللمجتمع، فهذا عمر رضي الله عنه أنه استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أنفس أمواله قائلاً: «أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ عِنْدِي، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتُ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» متفق عليه، وفي رواية «احبس أصلها وسبل ثمرتها». وقال جابر رضي الله عنه: «لما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صدقته في خلافته دعا نفراً من المهاجرين والأنصار فأحضرهم وأشهدهم على ذلك، فانتشر خبرها، قال جابر: فما أعلم أحداً ذا مقدرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالاً من ماله صدقة موقوفة لا تشترى ولا تورث ولا توهب»، (أخرجه أبو بكر الخصاف في أحكام الأوقاف). وللوقف فوائد عديدة منه سد الحاجة في المجتمع: الأمر الثاني أنه سبيل لإسعاد الإنسان، الأمر الثالث أنه وسيلة أصيلة لتوفير خدمات جليلة: فمعاهد العلم الأولى، إنما نشأت من الوقف، وتقديم الرعاية الصحية لكثير من المرضى، إنما كان يتم عن طريق الوقف، والمساجد تبنى من الوقف، ودور السكني تُبنى بالوقف للطلاب والفقراء وأبناء السبيل، والمزارع والآبار وسقاية الشرب، قال الشار:
(مَبرَّاتُ أوقاف الألى قصدوا إلى
معان من الإحسان جلّت عن الحصر)
والحاصل: أن الوقف يعد من أفضل أوعية الإحسان، وهو شكر لله تعالى بتوظيف نعمة المال لتحقيق فوائد عظيمة في تنمية المجتمع، فالوقف أهم دعامة للقضاء على المشكلات المالية والصحية والاجتماعية للأمة، والأوقاف مخزون إستراتيجي للأمة في الأزمات والطوارئ، وهو تربية للمجتمع على القيام بأكثر حاجاته، وتحقيق كفايته من العيش الكريم، وبالأوقاف تملك الأمة قرارها، إنه لابد من بث ثقافة الوقف في أوساط المسلمين، وحث الأغنياء والموسرين على وقف بعض أموالهم الثابتة، ونبذ حالة الاسترخاء والتسويف التي أصابتهم؛ فتمضي أعمارهم والواحد منهم يعد نفسه ويمنيها بأوقاف ينتفع بها الناس، ثم يدهمه المرض والموت ولم يوقف شيئا، ولا بد من توثيق الأوقاف وضبطها وتحريرها بفقه ودقة تراعى تقلبات الأحوال؛ لضمان الحفاظ على الوقف، واستمرار عطائه والانتفاع به، فكم تعطلت من أوقاف أو نهبت بسبب عدم ضبط ذلك وتحريره، قال تعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ .
رصد الاحتياجات
ويؤكد الشيخ سليمان بن جاسر عبد الكريم الجاسر رئيس مجلس إدارة مركز واقف، انه تختلف الحاجة اختلافاً كثيراً بحسب الأشخاص والأحوال والأزمان، فقد يحتاج من الناس لأمر لا يحتاج إليه غيره، وقد يحتاج إليه في وقت ويستغني عنه في غيره، أو يحتاج إليه في حال دون حال، وهكذا، وإذا كان الشارع قد اعتبر الحاجة وأناط بها كثيراً من الأحكام، مع أن الناس يختلفون اختلافاً كثيراً في قوتهم وتحملهم ونشاطهم وسائر أحوالهم؟
ثم إن الشارع قدر هذه الحاجات أو قربها بما يجعلها محققة للمقصود من مشروعيتها، ولم يجعل تقديرها تابعاً لرغبات الناس وأهوائهم وشهواتهم؛ وعليه لا يجوز العمل بالحاجة على كل حال، بل لا بد من تحقق شروط العمل بها وهذه الشروط منها ما هو شاملٌ لأنواع الحاجة ومنها ما هو خاصٌ ببعض أنواعها، وهي:
الشرط الأول: أن تكون الحاجة بالغة درجة الحرج والمشقة غير المعتادة.
الشرط الثاني: أن تكون الحاجة متحققة يقيناً أو ظناً.
الشرط الثالث: أن تكون الحاجة متعينة.
الشرط الرابع: ألا يكون في الأخذ بالحاجة مخالفة لقصد الشرع.
الشرط الخامس: ألّا يعارض الحاجة ما هو أقوى منها.
وإذا ثبت أن الحاجة تختلف من شخص لآخر، فإنه لا يجوز أن تُترك مطلقة، بل لا بد من ضبطها وتحديدها بما يضمن صحة العمل بها، إلا أنه لا يمكن أن نجعل للحاجة ضابطاً محدداً ومعياراً دقيقاً لا يختلف باختلاف الأعصار والأمصار وسائر الأحوال، وهذا لا يعني ترك الحاجة على عواهنها وإطلاقها، ويمكن تقدير الحاجة من خلال الأمور التالية:
1- أن تتبنى الهيئة العامة للأوقاف بالتنسيق مع وزارة الموارد البشرية مشروع توجيه الواقفين لأهم احتياجات المجتمع المعاصرة، لتقوم الأخيرة بدورها بحصر احتياجات المجتمع عن طريق خبراء الخدمة الاجتماعية والجمعيات الخيرية، فلديهم - ولله الحمد- رصيداً هائلاً من الدراسات والبحوث التي تناولت احتياجات المجتمع ليأتي الوقف بدوره المميز لإشباع هذه الاحتياجات.
2- تذكير القائمين على كتابة الصياغة الوقفية من قضاة وكتاب عدل وخبراء متخصصين والمحامين في الصياغة الوقفية بمراعاة الحاجة الحالية والمستقبلية مثل: (الإطعام، والسكن، العلاج، الزواج، الحج، التعليم، الأرامل، المطلقات، الأيتام).
3- يكون ضمن توزيع مصارف الوقف ما نسبته (10 %) للطوارئ أو النوازل أو النكبات لسد احتياجات الأفراد والمجتمع.
4- السعي لنشر ثقافة الوقف وأحكامه مما يصحح ويوجه الواقفين والنظار وعموم المجتمع في حصر احتياجاتهم.
5- إقامة الورش والملتقيات والندوات والمؤتمرات لمصارف الأوقاف، وتوضيح احتياجات المجتمع.
والذي يدفعني لاختيار الوقف كداعم اقتصادي(مناسب ومستقبلي) هو قناعتي بأن الوقف هو من خير ما يقدم للمجتمع، وهذه القناعة لدي تولدت من استقراء التجربة التاريخية التي خاضتها أمتنا مع الوقف على الفقراء والمساكين وعلى غيره من المجالات الحيوية الأخرى بنجاح باهر على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، بل إن واقعنا المعاصر يزخر بالكثير من الممارسات الواقعية لتلك التجربة في بلادنا ولا يزال بعضها قائماً إلى وقتنا الحاضر.
بابان فقط..!
ويقول الشيخ عبدالله بن سليمان اللحيدان المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية سابقاً: عند الاطلاع على اهتمام السلف بالأوقاف ومصارفها تكاد تخرج بمحصلة مفادها أنك ستجد أن مصارف الأوقاف تتجه لأغلب أبواب الإنفاق العام لسد احتياجات المجتمع وأفراده على مختلف تلك الاحتياجات وتنوع الأفراد، وفي المقابل في العصر الحديث ومع تكفّل الدولة بمعظم ميزانيات الجهات المقدمة للخدمات العامة فإن مصارف الأوقاف تكاد ينحصر دورها في الغالب على بابين هما لاشك هامين لكنهما في عصرنا وحيدين وهما: المساجد والآبار، ولا أقول أنهما مستغنيان بالأوقاف لكل ما يلزمهما ولكني أزعم أنه مع ضعف ريع الأوقاف مقارنة بقيمة الثروات لرؤوس الأموال فإننا نحتاج إلى إعادة نظر لتشجيع تكثيف المشاركة الوقفية ثم تنويع مصارفها، وخاصة أننا نعيش حقبة تاريخية عظمى تشهدها مملكتنا المباركة تتمثَّل في تطبيقات الرؤية المجيدة تحقيقاً لسياسة خادم الحرمين الشريفين وبإدارة سمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله - فإننا ننتظر دوراً يتماشى مع متطلبات هذه الرؤية المباركة تقوم به الأوقاف الخاصة جنباً إلى جنب مع موارد الدولة بتنوعها المبارك المقلل للاعتماد على مورد النفط وهو هدف سام لقيادتنا الحكيمة رعاها الله وأعانها، مهيباً بكل من أنعم الله عليه من خيرات هذه البلاد المباركة بأموال طائلة أن يوقف منها ما سيبقى له ذخراً في آخرته وليجد فيه الآخرون عوناً لهم على متطلبات الحياة، وإنني أذكر هنا أمران لطالما رأيت أهميتهما في هذا الجانب ألا وهما الصحة والتعليم، ولقد كنت أضرب مثالاً عملياَ يبرز أهمية هذه الأمر بأنه لو أوقف عدد من رجال الأعمال ريعاً محدداً من أموالهم وكل بحسبه لدعم ميزانية التعليم الحكومي بمنطقتهم أو مدينتهم أو إعمار مدرسة حكومية، أو تحمل رسوم جامعية لمتفوقين معوزين، أو ميزانية مستوصف حكومي، أو مركز طب تخصصي، أو برنامج مهاري، أو منتج إبداعي، أو غير ذلك كثير لوجدنا نتاج ذلك خيراً كثيراً يعم المجتمع بشكل مباشر، وفيه أيضاً تخفيف من ضغوط الإنفاق الحكومي على الخدمات وتوجيه الإنفاق لمصارف خدمية أخرى قد يصعب وصول الدعم الوقفي إليها.
ويؤكد عبدالله اللحيدان على أننا بالفعل نحتاج إلى تفعيل مشاركة القطاع الخاص في مصارف الخدمات العامة عن طريق الأوقاف الخاصة، وعليه فإنني أرى كذلك أننا بحاجة لتكثيف الجهود الرامية لتحقيق مثل هذا الأمر وتفعيله وأشكر الأستاذ سلمان العُمري على طرح هذا الموضوع الذي فيه مشاركة فاعلة نحو تحقيق الهدف المنشود في تفعيل دور الأوقاف في التنمية المجتمعية بشتى صورها.
النفع الطويل
ويوضح الشيخ سعود بن زيد المانع خطيب جامع الأمير سلمان بن محمد بمحافظة الدلم، رئيس جمعية تحفيظ القرآن الكريم في المحافظة سابقاً: أن الوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، ويشمل الأعيان من الأراضي والمساجد والبيوت والمزارع وآبار المياه ومعداتها وما يصلحها من آلات تنقية وتبريد وغيرها والأواني والأجهزة والآلات وغير ذلك، ويختلف عن الوصية انه ينفذ من حين وقفه في حياته وليس له حد بل يجوز بأكثر من الثلث ولا يجوز الرجوع فيه بعكس الوصية في هذه الأحكام، وهو أفضل من الوصية لأنه منجز ولأنه يبدأ نفعه وأجره في حياته.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات العبد أنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»رواه مسلم.
وللحديث الوارد عن أبي طلحة الأنصاري، رضي الله عنه، أنه عند نزول هذه الآية وهي قول الله تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ (92) سورة آل عمران، جاء إلى الرسول، وقال: يا رسول الله إن أحب أموالي إليَّ بَيْرُحاء: وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال عليه الصلاة والسلام: بخ بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني لأرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (رواه البخاري).
ويشدد الشيخ سعود المانع على أن الوقف رافد قوي للأعمال الخيرية ولاستمرارها بمورد ثابت بدل الحاجة لتبرعات الناس التي قد تنقص أو تنقطع في بعض الأحيان وينبغي أن يشمل الوقف جميع ما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم كالمساجد والمقابر والكتب والمكتبات والطرقات والمدارس ونفقات التعليم وطلاب العلم والمستشفيات والأدوات والأجهزة الطبية للمرضى والمعاقين والصدقة على الفقراء والأيتام والمرضى وكبار السن والمقعدين فهو مما يمتاز به الإسلام ومما يظهر فيه التكافل الاجتماعي بحقيقته وله أثر كبير في الترابط الاجتماعي بين المسلمين والمساهمة في خدمة المجتمع والتعاون مع الدولة في تأمين حاجات الأسر والمجتمع مع ما فيه من فرصةٍ وبابٍ عظيمٍ لمن يريد الخير والثواب المستمر والنفع طويل الأمد للمجتمع لاسيما إذا وفق لناظر قوي أمين ناصح، وإن من الأشياء التي تشكر عليها الدولة وولاة الأمر وفقهم الله إنشاء هيئة خاصةٍ للأوقاف لمتابعة الأوقاف والحفاظ عليها وتنميتها وصيانتها وتقديم المشورة لمن أراد الوقف في كيفيته وأفضل ما يوقف عليه وتقديم النصيحة للناظرين على الأوقاف والتعاون معهم فيما يحقق النفع والتنمية والاستمرار للوقف.