د.الجوهرة بنت بخيت آل جهجاه
جاء كما جئتُ إلى الحياة: مُتبسِّمًا، هادئًا، مائلًا إلى التأمُّل، باحثًا عن نفسه بين الأماكن والطرقات التي تسيرُ بنا إلى ما نستكشفه ونسكنه، وقد تستكشفنا تلك الأماكن والطرقات وتسكننا، وقد تبدأ نسج تفاصيلنا المشترَكة دون أن نتفطّن إليها، وأنّها تستمتع بترسيم التقارب فيما بين قلوبنا، وملامحنا، وأعماق عيوننا، وسائل الروح الذي يتحوّر ليكون مُتشبّعًا بذلك الإنسان، الذي صار شبكة الأمان التي نعشق الوقوع فيها، والالتصاق بها، والاشتباك بها أحلى اشتباكٍ وأدوَمَه.
متعة ذلك الاحتواء العفويّ في استهواء ذلك الاشتباك تَخلق انتماءً إليه، يُنقّي كلّ ما سَمِعتْهُ أرواحنا عن روايات وجَع الدنيا أو كُدرتها؛ فتتدفّق ضحكاتي غير المُبرَّرة قبل كلّ حرف، وفي خاتمة كلّ حرف، وفي بدء كلّ حديثٍ أو لقاء... دائمًا أركض إليه حتى وإن كانت المسافة بضعة مليمترات... دائمًا أقفز في حَضرته حتى تتباعد ذرّاتُ الهواء التي تحاول مزاحمتي عليه في لحظتي تلك... هل أغار عليه من ذرّات الهواء؟ هل أغار عليه مِن أنْ تسبقني إليه؟ بالتأكيد؛ فهو انتمائي الوحيد، وهي تستطيع أنْ تكتسب لذاتها انتماءاتٍ غير محدودة، وغير مألوفة، والمهم أنّها غير قريبةٍ منّي ومنه, وإنْ ألحّت على العناد ومزاحمتي عليه، فلا بد أن تستعدّ لمعركتي الطاحنة معها... سأُلوّن كلّ ذرّةٍ منها بلونٍ لامعٍ ولونٍ منطفئٍ... لا يزولان؛ فأحرمها من حالة التخفّي واستراق لحظات الآخرين، وأستمتع بمشاهدة ورطتها التي لا تنتهي بسببي.
صوته كان ريشته الخاصة التي شكّلني بها كما لا يَعرفني غيره، وكما لا يُمكن أن أتمنّى أن أكون غيرَ تشكيله ذاك... صوته يخلق ذرّاتي التي تتنامى كالبذرة الجديدة على عالم الصعود إلى واجهة الشمس؛ لتتعاقد معها على تحسين ابتسامة الصباحات والمساءات... إنني أنمو في كلماته التي أسمعها والتي تَسمعني وتمنحني جذوري الخاصة به، وزهراتي النامية من رحيق عينيه، وفروعي التي تتقوّس وتتطاول وتتضاحك مع كلّ طائرٍ ومخلوقٍ شديد الصغر يمرّ بها... جعلني تَنميتَه الخاصة من حيث لم أشعر أنّه كان منهمكًا في العناية بتشكيلي؛ لأنه رفيقٌ بي؛ لا يجعلني أفكّر في أنْ أوافقه، أو أؤجّله، أو أُخالِفه... كنتُ له باطمئنان... والاطمئنان شيءٌ بسيطٌ، هادئٌ، دافئٌ، يكفينا عن غيرنا وعن الدنيا بما فيها.