عبدالوهاب الفايز
موجة الحر القاسية في الأسبوعين الماضيين أعادت المخاوف والهواجس حول مخاطر تدمير البيئة، وجددت الحديث حول الثمن الكبير الذي سوف تدفعه البشرية نتيجة (عقيدة النمو الاقتصادي المتسارع) الذي جلبته الرأسمالية المتوحشة، فالسياسات الاقتصادية المتحررة دفعت بالنمو الاقتصادي متجاهلة الآثار السلبية في البيئة والإنسان والكائنات الحية.
وهذا أيضاً ذكرنا بإلقاء مع وزير البيئة عبدالرحمن الفضلي في جمعية كتاب الرأي قبل ثلاثة أعوام.. ويومها تحدث عن الجهود المبذولة لترتيب أوضاع البيئة في المملكة لإنقاذها من الإهمال والتدمير. ومع القلق العالمي، نحمد الله أننا لم نتأخر في حسم ملف البيئة المثقل بالهموم والتحديات، والآن نحتفي كل يوم بمنجزات البيئة.
السؤال الكبير: هل الموارد التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الأرض سوف تكون كافية لإطعام وإسعاد البشرية؟ المؤكد أن الحاله الملتهبة للأرض سوف تؤدي إلى الخطر الأكبر: تفاقم أزمة الغذاء واستمرار انخفاض غلة المحاصيل الزراعية والثروة السمكية، وبالتالي اتساع فجوة الغنى والفقر، وتجدد الحروب والصراعات.
التغير المناخي يُعزى سببه الأول إلى التدمير المستمر للبيئة، ومؤشراته الخطيرة تتصاعد، ومن أبرزها حرائق الغابات، وارتفاع متوسط درجة حرارة سطح الأرض. الأسبوع الماضي حرارة الأرض وصلت إلى أعلى مستوى تم تسجيله على الإطلاق حيث تجاوزت الحرارة المستويات القياسية المدونة. و(باركو) لشهر يونيو الماضي فقد دخل التاريخ! لقد أصبح الأكثر سخونة على الإطلاق. وعام 2023 سيكون بداية الأعوام التي تسجل أعلى سخونة في تاريخ البشرية.
تدهور المناخ سببه النمو المتسارع للنشاط الاقتصادي، فهذا يتطلب استهلاكًا كبيرًا للموارد الطبيعية، وما أودعه الله في الأرض ظلت البشرية لآلاف السنين تستهلك منه حاجتها، ولم تساعدها إمكاناتها للإفراط في الاستهلاك. وهكذا بقيت الأنشطة البشريه في تاريخها الطويل في حالة شبه مستقرة، وتنمو بمعدلات ضعيفة. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية أصبحنا فجأة نرى متوسط مستوى المعيشة يتضاعف في غضون عقود، والنمو يتصاعد.
معضلة البشريه جاءت بها الرأسمالية المحدثة التي تقوم على عقيدة النمو المقدسة، فهي المهيمنة على الفكر الاقتصادي، وأدى تبنيها في أمريكا وأوروبا إلى برمجة العقول لجيل من القيادات السياسية والاقتصادية، وتم فرض نماذج عملها عبر المنظمات والمؤسسات الدولية وشركات الاستشارات العالمية. لقد تحولت إلى النموذج الاقتصادي العالمي المهيمن الذي يصعب تبديله. وبحلول منتصف هذا القرن ربما تصبح البشرية محكومة بقوانين هذا النموذج دون بديل منقذ. وهذا السيناريو يوجد ورطة للبشرية. ومع تصاعد أزمة المناخ أصبح الجميع يتطلع إلى الحل، والسؤال: من يستطيع إدارة المصالح الكبرى التي تتطلب التنازلات والتضحيات، والمفارقة المؤلمة: الدول العظمى أعضاء مجلس الأمن هم من يدمر البيئة ويشعل الحروب!
هذا النمو المتسارع الذي تبنته الرأسمالية المحدثه استقطب انتباه العلماء، وأول انتقاد للنمو جاء في تقرير صدر عام 1972 بعنوان «حدود النمو». تضمن التقرير نتائج دراسة أجراها فريق من جامعة M.I.T. حيث تم استخدام نماذج رياضية توقعت أن الأرض سوف تشهد انهياراً بيئيًا منتصف القرن الحادي والعشرين إذا واصل النمو الاقتصادي العالمي بالمعدل الذي كان عليه مطلع السبيعينيات. ومنذ بضع سنوات يواصل العلماء تحذيراتهم من انهيار النظام البيئي، وتوقعاتهم لا تذهب بعيداً.
التقلبات المناخيه القاسية وارتفاع درجة الحرارة التي نشهدها هذه الأسابيع ربما تجعل هذه التوقعات حقيقية. وهذه المخاوف عادت للواجهة في مايو الماضي بعد نشر نتائج تقرير في مجلة Nature، المجلة العلمية المتخصصة في المناخ، والذي تضمن ملخص دراسة لمجموعة علماء دولية، تعرف بـ»ايرث كوميشن»، Earth Commission، تضمنت دراستها موضوعات عن تلوّث الهواء.
ووجدت الدراسة أن «النقاط الساخنة» لمناطق المشكلات تقع في جميع أنحاء أوروبا الشرقية وجنوب آسيا والشرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا، وأجزاء من إفريقيا، ومعظم البرازيل، والمكسيك والصين، وأجزاء من غرب الولايات المتحدة. ووجدت الدراسة أن نحو ثلثي مساحة الأرض محرومة من معايير سلامة المياه العذبة.
المؤلف الرئيس للدراسة «يوهان روكستروم»، مدير معهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ في ألمانيا، يعتقد أننا «نتحرك بالاتجاه الخاطئ لكل هذه الأمور»، ونبه إلى أن العالم (تجاوز فعلياً سبعة من ثمانية حدود آمنة وعادلة لنظام الأرض بدءًا من إمدادات المياه الجوفية والإفراط في استخدام الأسمدة درجة حرارة). وفي مؤتمر صحفي قال: «نحن نتحرك في الاتجاه الخاطئ بشأن كل هذه الأمور بشكل أساسي».
ثمة أمور واقعية قد تحول دون مراجعة مخاطر استنزاف الموارد، فالحكومات أصبحت أسيرة الرغبات الشعبية التي تغذيها ظاهرتين خطيرتين، اولهما - كما أشرنا - الراسمالية المنفلتة، والثاني بروز الطموحات السياسية الشعبوية للباحثين عن الزعامة. هؤلاء لن يهمهم أي اعتبارات بيئية أو اجتماعية. من يستطيع إيقاف تجريف 40 مليون طن من رمال الشواطئ سنوياً لمنع ما يترتب على ذلك من تدمير للبيئة البحرية؟
من يستطيع منع السفن الكبيرة التي طورت الصيد الجائر غير القانوني للأسماك في المحيطات، والذي سوف يؤدي إلى تقليص الثروة السمكية إلى الثلث، خصوصًا مع تقلص فرص الصيد قرب الشواطئ في المياه الضحلة بسبب تدمير حواضن تكاثر الأسماك.
أيضًا، الآن الشركات الكبرى الغربية تتجه إلى أعماق المحيطات للوصول إلى المعادن الثمينة، وهذه سيكون لها آثارها المدمرة على البيئة البحرية. لقد أخرجوا كائنات وترسبات عمرها مليوني عام عبر تجريف قاع المحيطات بحثًا عن المعادن الثمينة. هذا النشاط سوف يزيل الطبقة التي تمنع تسرب ثاني اكسيد الكربون. وهو نفس الذي يحدث مع تجريف الغابات الاستوائية، فقد تم إزالة الاشجار الكثيفة التي كانت تمنع تسرب ثاني اوكسيد الكربون إلى الفضاء. من يستطيع منع هذه الشركات من أنشطة التعدين؟
كذلك من أبرز الآثار الاقتصادية، أصبح ارتفاع الحرارة يحد قوة العمل الدولية للعمالة، فهذه تراجعت 10 بالمئة، وفي منتصف القرن سوف تتراجع إلى 50 بالمئة.
أيضًا التحول إلى الطاقة النظيفة الخضراء لن يكون دون ثمن، فالتكلفة على الطبيعة قد تكون أسوأ من الطاقة الاحفورية، فصناعة البطاريات الكهربائية تحتاج معادن مثل المنغنيز والنحاس والنيكل والكوبالت، وهذه تحتاج أنشطة التعدين المكثفة المدمرة للبيئة وللبشر حيث يعمل في المناجم الفقراء في إفريقيا وآسيا في ظروف أقرب إلى الاستعباد.
فعلًا عالمنا المجنون.. هل يحتاج إلى المزيد من الحر الذي (يطبخ رأسه؟!).