يخرج من منزله الساعة السادسة صباحاً، فهذا موعد رياضة المشي ولمدة ساعة بالتمام والكمال، يسير في طرقاته التي تعود عليها منذ أكثر من أربعين عاماً، يعشق الصباح الباكر.. حيث الشوارع شبه خالية من المارة.. يتأمل المكان والزمان.. والطبيعة التي تبدو ندية في عينه.. استوحى فكرة روايته الشهيرة العجوز والأرض أثناء مشيه اليومي.. وهو في عادة المشي يشبه العديد من رجال الثقافة والإبداع، يقول المفكر الفرنسي جان جاك روسو : إذا تحركت قدماي تحرك عقلي .
يمشي حتى يصل إلى المقهى .. يقرأ صحف اليوم .. فهو كاتب محترف ولا بد أن يطلع على أخبار مصر والعالم، والأهم من ذلك هو قراءته لصفحة الحوادث .. الصفحة المحببة إليه .. كان ينبش من بين سطورها فكرة لرواية جديدة .. أو شخصية يرسم من خلالها عمله الإبداعي .. وأثناء انهماكه في القراءة يرتشف فنجان القهوة التي يعشقها بشغف شديد .. وهذه أيضاً سمة يشترك بها العديد من الكتاب .. ولعل أكثرهم تعلقاً بها هو الأديب الفرنسي الشهير بلزاك، والذي كان يرتوي خمسين كوباً من القهوة في اليوم الواحد.
انشغل الأستاذ في وظيفته الحكومية .. ويعود سر نجاحه بالتوفيق بين الوظيفة والرواية إلى قدرته الفائقة على تنظيم الوقت .. وهذا يذكرنا بالأديب والوزير والسفير المبدع غازي القصيبي رحمه الله .. يكتب الأستاذ يومياً حوالي ثلاث ساعات بالتمام والكمال .. يقال إن الساعة إذا دقت معلنة انتهاء مهلة الكتابة رفع القلم عن الورقة دون أن يكمل الجار والمجرور .. أو أن يضع النقطة على الحرف .. هكذا كان الأستاذ دقيقاً جداً في وقته .. لقبوه حينها بالرجل الساعة .. وهو يذكرنا بهذه السمة الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط .
في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي .. نشرت الأهرام روايته الشهيرة أولاد حارتنا .. اعترض الأزهر الشريف .. وهو المؤسسة الدينية الرسمية في مصر على رمزية الرواية ومقاصدها .. وبعد جدل طويل .. منعت الرواية من النشر لكنها طبعت في بيروت ..
نعود إلى برنامج الأستاذ اليومي، فهو يحرص على أخذ القيلولة بعد أن يتناول وجبة الغداء .. فهي جزء أساسي من برنامجه اليومي المعتاد .. تحرص زوجته عطية الله ألا توقظه من قيلولته لأنها تعلم مدى غضبه تجاه راحته .. لكن الأمر جلل هذه المرة .. فقد رن تليفون المنزل في أكتوبر 1988م، حيث أخبرتها صحيفة الأهرام أنها تلقت خبراً بفوز الأستاذ بجائزة نوبل .. استجمعت قواها وقررت أن توقظ الأستاذ وتخبره .. وبالفعل استشاط غضباً ولم يصدق الأمر .. وعاد إلى قيلولته .. بيد أن أحدهم قرع جرس الشقة .. فتحت عطية الله الباب وإذ برجل طويل القامة ومعه زوجته .. عرَّف بنفسه أنه السفير السويدي في مصر .. وأنه جاء لتهنئة الأستاذ بفوزه بأعرق جائزة في العالم .. جائزة نوبل .. سمع محفوظ حديث السفير مع زوجته .. وأدرك أن الأمر جد .. فلبس هندامه .. وخرج من غرفة النوم مرحباً بالضيف .. وما هي إلا دقائق معدودة حتى تحولت صالة المنزل إلى فندق صغير .. فقد امتلأت بوكالات الأنباء والكاميرات والصحفيين والإعلاميين ورجال الفكر والثقافة .. الكل سعيد في شقة الأستاذ .. فهو يستحق هذه الجائزة عن جدارة واستحقاق .. وبهذا أصبح نجيب محفوظ أول أديب عربي يفوز بجائزة نوبل في الأدب .
فاز الأستاذ بالجائزة بعد أن قضى أكثر من نصف قرن وهو يثري المكتبة العربية بروائع الروايات الخالدة، ويتحف السينما بعشرات الأفلام التي تغذت على فنه ورواياته.. وكتابته للسيناريو والحوار ..
من عادة الأستاذ أنه يكره السفر خارج وطنه مصر.. فلم يغادر القاهرة إلا مرات معدودة إلى اليمن ويوغوسلافيا كمهمة رسمية .. وإلى لندن للعلاج .. وكان من المفترض أن يسافر إلى استوكهولم عاصمة السويد .. ليتسلم جائزته الكبرى .. لكنه قرر أن يمكث في منزله .. يشاهد مراسم الاحتفال مباشرة عبر شاشة التلفاز .. كان شديد الفرح وهو يرى ابنتيه فاطمة وأم كلثوم وهما تتسلمان الجائزة من ملك السويد نيابة عنه ..
لم تغير الجائزة من الأستاذ كثيراً .. فقد ظل نجيب محفوظ الذي يعرفه الناس .. ديدنه البساطة والتواضع وحب الناس .. والابتسامة الهادئة التي تعلو محياه .. كما بقي وفياً لصنعته الكتابة .. وعاشقاً للعطاء الإبداعي .. لم يغير شقته المتواضعة بالدور الأرضي من المنزل رقم 172، شارع النيل في العجوزة .. ولم يشتر سيارة .. بل قسم ثروته على زوجته وابنتيه .. كان مثالاً حياً للزهد في مفاتن الحياة .. وواقعاً ملموساً في العبقرية الممزوجة بالإنسانية والتواضع ..
كان المفكر العملاق عباس محمود العقاد قد تنبأ بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل قبل حصوله عليها بثلاثين عاماً، وهذه النظرة الحصيفة تحسب للعقاد .. كما تحسب للأديب سلامة موسى رعايته لهذه الموهبة مبكراً عندما كان ينشر أعماله في بداية حياته.. و من الجدير بالذكر أن الأستاذ كان يلتقي بالشباب ويستمع لآرائهم حول أدبه وهو في قمة مجده الثقافي، يقول يوسف القعيد إن أحد هؤلاء الشباب ذكر بعض الآراء السلبية حول نتاج محفوظ الأدبي، وكنا الحاضرون نحاول منع هذا الشاب من استكمال كلامه من باب اللياقة الاجتماعية ... وكان نجيب محفوظ هو الذى يعترض على موقفنا ويطلب من الضيف الغريب استكمال كلامه.
وبعد حوالي ست سنوات من حصوله على الجائزة .. كانت السيارة تنتظره أمام بوابة العمارة التي يقطنها كي تقله إلى اجتماعه الأسبوعي مع شلة الحرافيش .. بيد أن أحد المتطرفين بادره غدراً بالطعن في عنقه .. كان يترصده من قبل .. ولا يخفى على القارئ الكريم سهولة ترصد إنسان معروف بساعة دخوله أو مغادرته المنزل .. كونه دقيقاً في وقته .. وعلى الفور .. تدخل الحضور وقبضوا على الجاني .. أما الأستاذ فقد تم نقله مباشرة إلى المستشفى .. وتشاء إرادة الله أن يعيش الأستاذ ويبقى على قيد الحياة ..
تذكر محاضر الشرطة .. أنه أثناء استجواب الجاني عن سبب محاولته القتل .. أفاد بأن نجيب محفوظ كافر .. وعندما سأله المحقق ، هل قرأ شيئاً من أعمال الأستاذ؟، أجاب بالنفي ، وإنما سمع من بعض دعاة الجهل والإرهاب أن الأستاذ كافر ويستحق القتل .. هكذا كان دعاة التطرف يروجون الدعايات على أهل الفكر والثقافة .. وهكذا كان الجهل والإرهاب .. وجهان لعملة واحدة ..
وبعد أن شفي الأستاذ واستعاد صحته أراد أن يعود إلى مهنته وعشقه .. فن الكتابة .. لكنه لم يستطع الكتابة بيده اليمنى بسبب آثار الطعنة .. ولأنه يمتلك عزيمة قوية .. فقد بدأ يتدرب على الكتابة باليد اليسرى .. وبعد محاولات عديدة .. نجح في استعمال اليد اليسرى في كتابة أعماله .. وعاد إلى إبداعاته الروائية .. كما رجع إلى عموده اليومي في صحيفة الأهرام .. وعاد أيضاً إلى ممارسة رياضة المشي ..
كان الأستاذ يود الحياة ويعشق النور .. ويحب الناس .. كان بعيداً عن مغريات الجاه والمناصب والأموال .. ومحباً للقيم والأخلاق .. وقد تجلت كل هذه المعاني في عمره الطويل والذي امتد إلى الرابعة والتسعين عاماً .. كان محباً للعطاء بصورة متفانية .. ولهذا لم تنشأ العداوة أوالبغضاء بينه وبين أي أحد من زملائه الكتاب .. الجميع كان محباً لمحفوظ .. ولم يكرهه سوى فئتين .. حساد النجاح ودعاة التطرف .. أما تلاميذه فكانوا شديدي التعلق بأستاذهم .. وعندما يحل الحادي عشر من سبتمبر من كل عام .. كانوا مع محبيه ومريديه يملأون صالة شقته للاحتفال بعيد ميلاده .. ومن أبرز هؤلاء الكتاب جمال الغيطاني ويوسف القعيد ومحمد المسلماني ورجاء النقاش ومحمد الشاذلي ومحمد سلماوي وغيرهم .. وجميعهم كتبوا عن الأستاذ .. وبعضهم ألف كتباً عنه ..
وفي الثلاثين من أغسطس 2006م ، غادر الأستاذ دنياه بعد أن ترك إرثاً ثقافياً خالداً .. واستطاع أن يبرز المدرسة المحفوظية في أدب الرواية العالمية .. رحمه الله تعالى.
** **
- عبدالله العولقي