محمد سليمان العنقري
وسائل التواصل الاجتماعي أو ما يسمى الإعلام الجديد قدمت الفرصة لكل شرائح المجتمع للمشاركة بالرأي أو التعليق على مختلف القضايا, فهي تتميز بالتفاعلية وعدم ارتباط المستخدم بزمن معين ليعلق أو يرسل رأيه, وكذلك خاصية الاحتفاظ بالمشاركات والانتشار الواسع في فضاء الإنترنت وغيرها من المزايا, لكنها مع إيجابياتها فإن هناك مخاطر كبيرة تتمثل بعشوائية الطرح ونشر عدد ضخم من القراءات المختلفة حول موضوع واحد مع إمكانية بث الإشاعات بسهولة, إضافة لعدم التحقق من مصادر بعض ما ينشر وكذلك انتشار القراءات الشعبوية والمشحونة بالعاطفة بحيث تحاكي الأهواء والأمنيات لا العقول ومن مخاطرها أيضاً إمكانية التضليل بقصد أو دون ذلك.
فلا يكاد يمر حدث إلا تحد هناك من يسهب بشرحه وفق قراءة مسكونة بنظرية المؤامرة أو بما يتمناه, فعلى سبيل المثال وبالتحليلات السياسية برز حدثان مهمان الأسابيع الماضية؛ الأول تمرد فاغنر على موسكو والذي انتفضت مخيلات البعض لاعتباره مسرحية ودهاءً روسياً للعب على الغرب, والحقيقة لا يمكن أن يقبل العقل مثل هذا الافتراض لسبب بسيط أن روسيا دولة عظمى عسكرياً وعضو دائم بمجلس الأمن وتخوض حرباً أشبه بالوجودية مع الغرب على المسرح الأوكراني, فكيف ستقبل قيادتها أن تظهر بشكل مهزوز وأنه من السهل أن يتمرد أحد عليها, فهذا يظهرها ضعيفة ويربك المواطنين ويشكك بقدرة الدولة على حمايتهم ويؤثر على معنويات المستثمرين وقطاع الأعمال, وبذلك فإن القراءات التي انساقت خلف أنها مسرحية ماهي إلا رغبات من كتبوها بأن لا تظهر روسيا ضعيفة أمام الغرب ليس أكثر، أما الحدث الآخر هو الشغب والاحتجاجات التي وقعت في فرنسا وهي عضو دائم بمجلس الأمن وأكبر وأقوى دول الاتحاد الأوروبي عسكرياً وثاني اقتصاد في الاتحاد والسابع عالمياً, فقد ذكر بعض من حللوا الأحداث بأن لأميركا يداً بدعمها معتمدين في ذلك على تصريح للرئيس الفرنسي ماكرون قال فيه إن وسائل التواصل الاجتماعي تبث التحريض على العنف في بلاده وبما أن جل تلك الوسائل هي شركات أمريكية فاعتقدوا أن ذلك يشير للمؤامرة حيث ربطوا ذلك بمواقف سابقة لماكرون قال فيها «إن أوروبا لا ينبغي أن تتصرف كتابع للولايات المتحدة، ولا ينبغي لها أيضاً أن تورط نفسها في أزمات لا تخصها», وهي إشارة واضحة إلى أزمة تايوان بين الصين والولايات المتحدة وكان ذلك عند زيارته للصين في إبريل الماضي, يضاف لذلك تصريحه أيضاً الذي جاء فيه «يجب على أوروبا أن تقلل اعتمادها على الدولار الأميركي خارج الحدود الإقليمية» ومن تلك التصريحات رأت قراءات بعض من هم شغوفون بنظرية المؤامرة أن أميركا تريد الضغط على أكبر حليف أوروبا حتى يغير مواقفه وبالحقيقة هذا تسطيح للعلاقات الدولية ولوضع العالم حالياً فأول الخاسرين من الفوضى في أوروبا هي أميركا لأن ذلك يعني تفتيت التحالف الذي تقوده ضد روسيا والتي ستنهي بهذه الحالة الحرب لصالحها سريعاً وتفرض شروطها وتعزز دورها كقطب عالمي وهذا ما لا تريده واشنطن لأن ذلك يعني تعزيزاً إضافياً لقوى عديدة أولها الصين لتكون أقطاباً جديدة وبذلك تنتهي الهيمنة الأمريكية تماماً بالعالم وتصبح قطباً من القطاب وعليها أن تقبل دوراً جديداً لها.
فأميركا ليست بوضع القوة التي كانت عليها قبل عقد أو اثنين رغم نمو اقتصادها وتقدمها التكنولوجي لأنه بالمقابل تعاظمت مديونيتها بشكل كبير خلال 15 عاماً من حوالي 11 تريليوناً إلى أكثر من 31 تريليون دولار حالياً, وتعاني من تضخم لم تعهده منذ أربعة عقود على الأقل بالإضافة لخلافات سياسية زادت بعد خسارة الرئيس السابق ترمب للانتخابات قبل ثلاثة أعوام تقريباً, يضاف لذلك حالات الانقسام بالمجتمع حول فرض تغييرات بقيم ومبادئ بشكل بات يمثل خطراً على التركيبة السكانية بأميركا بل أدى ذلك لنفور دول عديدة من التعامل معها لأنهم يطلبون منهم إقرار قوانين مشابهة لما لديهم حول المثلية وغيرها من التي يعتبرونها حريات وهي منافية للطبيعة البشرية ومخالفة للديانات والشرائع, ولذلك فإن حرص أميركا على تحالفاتها بات أكبر من السابق وهي تحاول معالجة بعض أخطائها السياسية التي أعطت لخصومها ومنافسيها فرصاً لبناء تحالفات وعلاقات في مناطق كثيرة من العالم, فالدول تبحث عن مصالحها بنهاية المطاف بل والملفت أنه وبعد كل التصريحات الأمريكية النارية اتجاه الصين إلا أنهم بدأوا بتغيير موقفهم معها من خلال الزيارات التي يقوم بها المسؤولون الأمريكيون لبكين وآخرهم وزيرة الخزانة التي قالت «فصل الاقتصادين الأمريكي والصيني مستحيل ويؤدي إلى زعزعة استقرار الأسواق العالمية», وهو اعتراف وتسليم بأن الصين قطب اقتصادي رئيسي لا يمكن عزله أو احتواؤه ويحب التعامل مع الصين كشريك وليس منافساً ودعم دورها باستقرار الاقتصاد العالمي, فمن الواضح أن العالم يتشكل حالياً بموازين قوى مختلفة عن السابق والقراءة الموضوعية هي التي تبنى على الوقائع وما هو ظاهر من إمكانيات وقدرات.
أصبح تويتر منصة للقراءات السطحية لأحداث في غاية الأهمية فمن السهل أن تحبك سيناريو فضفاضاً مبنياً على نظرية المؤامرة لأن ذلك أسهل طريق لتقديم تحليل قد يطرب أذان البعض لكنه مضلل ولايقدم وعياً بما يدور بالعالم بشكل صحيح وينقص من قيمة الأحداث ويفصلها وكأنها سيناريو لفيلم أو مسلسل فكل ما يكتب تحت هذه النظرية مبرره الوحيد أن كاتبه غير قادر على قراءة الواقع كما هو ويعتقد أن لاشيء يحدث صدفة أو لا يعود للتراكمات التي قد تمتد لعقود وهي من أدت لوقوع تلك الأحداث, فكما توصف نظريات المؤامرة بأنها تنتج في أغلب الحالات افتراضات تتناقض مع الفهم التاريخي السائد للحقائق البسيطة.