ناهد الأغا
الليل أهزوجة النقاء، وهمسات الروح العليلة وتجلي الوجدان، وتحليق النفس في السماء الصافية، المشعة بنور القمر ولمعان النجوم، ويعبر العقل فيه برحلة سريعة دون محطات توقف وعبور، وحدود وتأشيرات، يستعيد فيها الذكريات ويعبر إلى أعماق المجهول، قصة كبرى بقوته وصلابته، وطوله الممتد.
رفيق الشعراء منذ قديم الأزل، يخاطبونه وكأنه مبصر لما يجول في أفكارهم، ويدرك مشاعرهم وتدافقاتها، ويشعر بألمهم وضيقهم، ويشارك أحاسيسهم فالشاعر الجاهلي امرؤ القيس، في معلقته، يبوح عمّا في نفسه وهو يعيش أجواء الليل، وتلقي الهموم بظلالها عليها، ويخاطب الليل كصديقه ويدعوه إلى الانتهاء لعل الصباح يريحه، ثم يعود ويرى الليل صديقا ًغالياً، ولن يكون النهار خيراً منه، بقوله:
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ
عَلَيَّ بِأنْواعِ الهُمُومِ لِيَبْتَلِي
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ
وأَرْدَفَ أَعْجازًا ونَاءَ بِكَلْكَلِ
أَلا أَيُّها اللَّيْلُ الطَّويلُ أَلَا انْجَلِ
بِصُبْحٍ وما الإِصْباحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
فَيا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ
بِكُلِّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ
ومضى الإحساس بطول الليل، ومرافقته عناء الشعراء، وعذابهم أيضاً في عصر صدر الإسلام، إذ وصف الشاعر حسان بن ثابت رضي الله عنه، طول الليل، بقوله:
تطاولَ بالجمّانِ ليلي فلمْ تكنْ
تَهمُّ هوادي نجمهِ أن تصوبا
أبيتُ أراعيها كأنّي موكلٌ
بها لا أُريدُ النّوْمَ حَتّى تَغَيّبَا
ويتولد الإحساس ذاته مع الشاعر بشار بن برد في العصر الأموي، وينشد:
خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدَّجَى لاَ تَزَحْزَحُ
وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لاَ يَتَوَضَّحُ
أضَلَّ الصَّبَاحُ الْمُسْتَنِيرُ سَبِيلَهُ
أم الدَّهْرُ لَيْلٌ كُلُّهُ لَيْسَ يَبْرَحُ
وكم كان لقسوة الليل في نفس الشاعر أبي فراس الحمداني في العصر العباسي من ثقل لا يزول، حين قال:
وَأَسرٌ أُقاسيهِ وَلَيلٌ نُجومُهُ
أَرى كُلَّ شَيءٍ غَيرَهُنَّ يَزولُ
تَطولُ بِيَ الساعاتُ وَهيَ قَصيرَةٌ
وَفي كُلِّ دَهرٍ لا يَسُرُّكَ طولُ
وفي العصر الحديث وصف شاعر النيل حافظ إبراهيم الليل صديقه الحبيب والرفيق الذي لم ينفك عنه بُرهة من الوقت، في قصيدته (ما لهذا النَّجْمِ في السَّحَرِ)، التي أنشد قائلا فيها:
ما لهذا النَّجْمِ في السَّحَرِ
قد سَها مِنْ شِدّةِ السَّهَرِ؟
خِلْتُه يا قَوْمُ يُؤْنِسُنِي
إنْ جَفاني مُؤْنِسُ السَّحَرِ
وكأنّ اللَّيْلَ أَقْسَمَ لا
يَنْقَضي أو يَنْقَضي عُمُري
لتحط الرحال الشعرية في ألفة الليل وصحبته، ومجاراته للأحاسيس والمشاعر والمعاناة مع الشاعر السعودي خلف بن هذال، في أبيات نبطية عفوية، في وصفه الليل، وما له من آثار على تفكيره وشؤونه وأيامه، فكما هم السابقون يبادله أطراف الحديث، ويبث إليه شكواه، ويفشي إليه ضجره من طول الوقت فيه،فهو صديقه الوفي والرفيق المترابط وإياه، فقال بعفوية وبلاغة:
أنا والليل خلان ورفاقه
اخذني عشق واخذته عشاقه
اوضح له ضنايٍ مابروحي
ويفتحلي على الغياض طاقة
الا ياليل وش عندك وعندي؟
يقوله من تكدرله مذاقه
عيونه من غرام الشوق تهمل
عبايرها على ذيك الدقاقة
وانا بنهاية التسعين هجري
إلي خلٍ عجزت اقوى فراقه
مضى عشرين عام وخمس كني
كسير عيب الجبار ساقه
يفزع بصياحه هجوع ناسٍ
لهم بالنوم والراحة علاقة
الا ياليل يا عرضك وطولك
انا وياك لا عاد الصداقة
ويلح الشاعر بن هذال على صديقه الليل، أن يطلق سراح تفكيره وباله، لعل عيونه تذق طعم النوم، ويلقي العقل متاعه مستلقياً من عناء كبير، ويتساءل:
سألت الليل بعد الليل ولى
أنا كيف أتصبر واتسلا
فقلت اعطف لمن يرعاه نجومك
بجاه الله عني لا تجلا
تسليني وتنسيني نهاري
وتتركني وجرحي مستجلا
ثلاث ضلوع يشكن الهضايم
على المعلوق والقلب يتدلى
ولا به ليل نامت فيه عيني
وأنا ما اذكرلها بالذمة إلا
إذا نامت تصحيها حلومي
وإذا صحيت تفيض ثم تملا
على ظبي تطاوعها الجميلة
إذا صكه الهوا الغربي يتخلى
من الموقع وخلا القفر خالي
على دربه يتل الريم تله
ويترسل الشاعر المُجيد ابن هذال في المعاناة التي يَحس بها بحُلكةِ الليل وسواده، وإرساله كلماته وأبياته وأشعره في ثناياه، بقوله:
جريت صوتي تالي الليل جره
والناس هجعا وأرفع الصوت بأبيات
ولقيت في سود الليالي مضره
كم كلمة ولّت وراحت ولا جات
النوم يعرض للعيون وتمره
مر الكرام اللي خطاهم سريعات.
كلمات عفوية تلاحمت، وصنعت حكاية جميلة، تشبه تلك الحكايات الخالدة في الذاكرة الشعرية العربية، سلم البوح الجميل وقائله.