رقية سليمان الهويريني
يتجاوز مصطلح التبعية الأمور السياسية والاقتصادية والدينية، ويتعداه إلى أنواع أخرى من التبعيات الفكرية والثقافية وحتى العاطفية. وتنتج في النهاية جيلاً مسخاً مهمته الإفراط في تبرير أخطاء من يتبعونهم، وتزييف وعي الناس البسطاء، ليصبح وعياً مغلوطاً، ينسجم مع مصلحة المتبوعين، وليس مع مصلحة المجتمع، فيعرقلون مسيرة التقدم، ويوقفون عجلة التاريخ!
إن فكرة خلق الزعامات الورقية بالتمجيد وإقناع الجمهور بها، تعد ضرباً من الغش والتدليس، ليس على الناس فحسب؛ بل حتى على التابعين الذين يتقمصون شخصيات تلك الزعامات (الوهمية)! ومن يحيد عن التقليد والمحاكاة أو حتى الاستقلالية يدخل في دائرة الدهشة أو النبذ.
ففي نظر الناس أن ابن الشيخ لا بد أن يتقمص شخصيته، ويتبنى أفكاره وآراءه الذاتية، ويتشكل حتى في لبسه وهيئته ويسير على نهجه. وحين لا يفعل؛ لا يجد قبولاً أو يُدعى له بالهداية، مهما كان على درجة عالية من الصلاح.
ويسري هذا الأمر على جوانب أخرى من الحياة، فالوالد يريد من أبنائه أن يستنسخوه ويطبقوا مبادئه التي يراها الأفضل والأكمل. وأعجب كثيراً حين أرى رجلاً يتأبط أيدي أبنائه ويقدمهم للناس، والعجيب أنك حين تنظر لهم كأنك ترى تاريخ الأب عندما كان صغيراً، من دون أي تغيير ثقافي أو حضاري. ويسري هذا الأمر على الأم بصورة أكثر ديكتاتورية، حين تريد من بناتها السير على نهجها وفكرها وسلوكها، فترضي هذه رياء، وتبتسم في وجه تلك نفاقاً؛ ليُرضى عنها ويُصفق لها ويُثنى على تربيتها، وهي لا تدرك أن ذلك يعني إجبارهن للذوبان في شخصيتها، وتغييبهن، وعدم إتاحة الفرصة لحضورهن الشخصي، فلا تريهن إلا ما ترى!
وفي الوقت الذي ينفر الأبناء من محاولة الاستنساخ السلوكي من آبائهم، تجد أولئك الآباء يتذمرون من خلع أبنائهم عباءة التبعية!
ويأتي دور الأصدقاء الذين ينتهجون نفس الأفكار والتوجهات، ولو حاول أحدهم التخفف من بعض قيود الفكر الذي يجمعهم لقام الفريق بنسفه والتخلي عنه، كما لو حاول آخر الدخول في منظومتهم فلن يجد القبول. ولا تعجب حين ترى صديقين يتمتعان بكامل الحرية، بينما هما صورة كربونية من بعضهما، فكيف يتم الانسجام مع من يقاسمك نفس الفكر؟ وأين جمال التمايز والاختلاف؟!
ويحسن بمن يحب أبناءه، ويحترم أصدقاءه أن يتركهم يخرجون من عباءته ووصايته؛ كيلا تزداد الصور الكربونية بذات السمات وبنفس المعاني.